ألا لعنةُ الله على الكبر.. “مع الآيات ـ حلقة 55 ”
حلقات يكتبها: أ.د. عبد الشافى الشيخ

أستاذ الدراسات العليا
بجامعة الأزهر الشريف
فى الحلقة 55 من سلسلة حلقات “مع الآيات” نتناول الآيتن 87 و88 من سورة البقرة، يقول الله تعالى:
“وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ
بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ”.
في هاتين الآيتين تذكير لبنى إسرائيل بصنوف من النعم التي أنعم الله بها عليهم ثم قابلوها بالكفر والإجرام.
والنعمة هنا هي المنهج الذي أنزله الله على موسى عليه السلام، عده الله تعالى نعمة – وهو كذلك- وعلى هذا فالفهم
الصحيح للمناهج الربانية أنها نعمة من الله وليس تكييلا لأفعال البشر، لكن ضيقوا النظر يرون منهج الله عرقلة لحياتهم وكبتا
لهم، وهو فهم ينغص على العبد حياته وآخرته.
ليتهم استجابوا لما فيها من الهداية والإرشاد
والمراد بالكتاب الذي أعطاه الله لموسى هو التوراة، فقد أنزلها عليه لهدايتهم، وليتهم استجابوا لما فيها من الهداية والإرشاد،
ولكنهم حرفوها وبدلوها وخالفوا أوامره وأولوها تأويلا سقيما.
ومعنى وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أردفنا وأرسلنا من بعد موسى رسلا كثيرين متتابعين، لإرشاد بنى إسرائيل، وإخراجهم
من الظلمات إلى النور.
وقد فهم بنوا إسرائيل هذا المعنى خطأ، فعدوا كثرة الأنبياء لهم ميزة، وجعلوها مدعاة للتفاخر والتعالي على عباد الله
حتى قالوا عن أنفسهم أنهم شعب الله المحتار.
ونسوا ـ هداهم الله – أن إرسال الرسل لقوم يعني أن هؤلاء القوم وصلوا من الانحراف والشطط ما يستدعي أن يرسل الله لهم
من يقوّمهم ويردهم إلى جادة الطريق المستقيم، فحق لنا أن نستنتج من كثرة الرسل لبني إسرائيل هو ناتج عن كثرة
قبائحهم، وتعدد مخالفاتهم، وإلا ما فائدة أن يرسل الله رسل لقوم مهتدون بالفعل؟.
خلل التفكير والختم من الله على قلوبهم
لقد غابت عن عقولهم وقلوبهم الحقيقة فما هو مذمة لهم عدوه مدحا، وما هو نعمة من الله نبذوه وراء ظهورهم، إنه خلل التفكير والختم من الله على قلوبهم.
والمراد بالبينات في قوله: وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ: الحجج والبراهين والآيات الدالة على صدقه وصحة نبوته، فتشمل كل معجزة أعطاها الله لعيسى كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإخبار ببعض المغيبات، وغير ذلك ..
وخص القرآنُ عيسى بالذكر لكونه صاحبَ كتابٍ هو الإنجيل، ولأن شرعَه نسخَ أحكاما من شريعة موسى- عليه السلام-، وفي إضافة عيسى إلى أمه إبطال لما يزعمه اليهود من أن له أبا من البشر، وروح القدس هو جبريل- عليه السلام، سمى روحا لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة لحياة البشر. فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإلهية تحيا به القلوب. والروح تحيا به الأجسام. ووصف بالقدس لطهارته وبركته.
وبعدها يعنف القرآن بني إسرائيل بفعلهم فيقول لهم: أفكلما جاءكم يا بنى إسرائيل رسول بما لا تحبه أنفسكم الشريرة استكبرتم عن اتباعه والإيمان به وأقبلتم على هؤلاء الرسل ففريقا منهم كذبتم، وفريقا آخر منهم تقتلونه غير مكتفين بالتكذيب.
واستكبرتم: التكبر ينشأ عن الاعجاب بالنفس الذي هو أثر الجهل بها. وهو من الصفات التي متى تمكّنت في النفس أوردتها المهالك، وساقَتها إلى سوء المصير.
وقدّم تكذيبَهم للرسل على قتلِهم إياهم، لأن التكذيب أول ما يصدر عنهم من الشر.
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أى: قالوا: قلوبنا يا محمد مغطاة بأغطية حسية مانعة من نفوذ ما جئت به فيها. ومقصدهم من ذلك، إقناطه صلّى الله عليه وسلّم من إجابتهم لدعوته حتى لا يعيد عليهم الدعوة من بعد.