
“أهل الفساد” .. هذا هو عنوان الحلقة 12 من سلسلة حلقاتنا “مع الأيات”،
ونعيش فى هذه الحلقة مع آيتين من سورة البقرة، يقول الله تعالى:
“وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)”
خلق الله الحياة على هيئة الصلاح للناس، وهي سنة الله تعالى في كونه وخلقه،
لا تتخلف ولا تتبدل، وكل ما في الكون مسخر وميسر لما خلق له، لأنه ليست له إرادة،
فهو مسخر لدوره وحسب،
ولذلك لا تجد خللا في عمله، خذ مثالا على ذلك: الشمس مثلا أو الرياح أو المطر أو ما شئت من خلق الله تعالى المسخر
لخدمة الإنسان.
الكل يعمل بنظام دقيق لا يتخلف عن دوره قدر أنملة، لأنه لا خيار له، حتى الحيوانات لا يتمرد أيهم على عمله، فيظل الحمار
يحمل دون أن يعترض، والحصان يجري دون أن يملّ، والبهائم تذبح وتؤكل والطائر يطير دون ان يبدى ضجرا والأسماك بأنواعها
تظل في الماء طيلة حياتها دون أن تتمرد … وهلم جرا.
ميز الله الإنسان على سائر خلقه بالعقل
والكائن الوحيد الذي أعطاه الله نوع اختيار هو الإنسان، ميّزه على سائر خلقه بالعقل المنوط به التكليف، سَيّدَه على الكون
كله، فالكل في خدمته، ولو أنه قدّر نعمة الله حق التقدير لما كفّ عن الشكر لله لحظة في حياته، ولاستثمر هذا التدليل له
من الله، ولكنّ البعضَ لا يراعي هذا العطاء الإلهي له، فيسيء استعمال عقله في الإفساد في الأرض.
وكان بإمكانه أن يأتي بأقل مراتب الصلاح، وهو أن يترك الصالح على صلاحه، لكنه تجاوز ذلك ليكون معول هدم بدلا من أن
يكون آلة بناء، رضي أن يكون مثبطا لغيره بدلا من أن يكون محفزا له.
وتجدهم يحرصون على الإفساد كما لو كانوا لا يستطيعون العيش دونه،
والعجب كل العجب أن هؤلاء المفسدين إذا ذكّروا بالله تعالى أخذتهم العزة بالإثم.
تحكي الآية الكريمة هذا المشهد الذي تعجب منه الطبيعةُ والفطرةُ الراقيةُ التي لم تدنّس بعد، بأنه إذا قيل لهم من قبل
المصلحين: لا تفسدوا في الأرض.
كانت بضاعتهم الكذب وتمويه الحقائق والكلام الخالي عن دليل، وهذا هو حال المفسدين في كل زمان ومكان،
ولا يملكون إلا الكلام، ويروجون لأنفسهم بالدعاية الكاذبة، ويوهمون الناس أنهم على صواب وأن غيرهم هو المفسد،
وتعجب إذا علمت أن هذا الكذب والتنصل من الإفساد يستمر معهم حتى إلى يوم القيامة فيحاولون الكذب لعله أن ينجيهم من
العذاب، فهم يكذبون حتى آخر الوقت، ولات حين مناص، يقول تعالى:
” ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ”.
سنة الله تعالى مع المفسدين لا تتخلف على مر العصور
ألا فاحذروا ممن بضاعتُهم الكلام والتزييف وتغيير الحقائق، فهم المفسدون بعينهم الذين عناهم القرآن في هذه الآيات،
والله تعالى دائما ما يفضحهم كما فضحهم في هذه الآية بقوله:” أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ”،
ولما كانت هذه هي سنة الله تعالى مع المفسدين فهي لا تتخلف على مر العصور والدهور.
ودائما ما يفضح الله تعالى المفسدين، ويكشف عنهم الستار فيظهرون للناس في أقبح صورة مهما حاولوا أن يروّجوا لأنفسهم،
فإن الله فاضحهم لا محالة.
فليراجع كل منا أعماله وأقواله وأفعاله لئلا يكون على درجة من الإفساد وهو لا يشعر، فإن الإفساد قد يتسلل للإنسان
وهو لا يشعر، لأنه لا يرى إلا نفسه وحسب، والتاريخ القديم والحديث والمعاصر يترجم لنا هذا المعنى، فالمفسدون موجودون
وسرعان ما يفضحهم الله تعالى، مهما تستروا بستار الدين أو بمسوح الصلاح، وتاريخنا المعاصر خير شاهد على صدق كلام
الله تعالى.
وفور أن علا صوتهم تكشفت أنيابهم عن أخبث طويّة
خدعونا بالدين ولين الكلام، والتمسح بلباس التقوى والصلاح، وفور أن علا صوتهم تكشفت أنيابهم عن أخبث طويّة، وسوء نيّة،
وفضحهم الله على رؤوس الأشهاد، فكانوا عبرة لمن أراد أن يعتبر بأنّ سنّة الله مع المفسدين لا تتبدل ولا تتغير، فالله حتما
فاضحهم، ويكشف دوما سترهم، حتى لا يختل ميزان الكون الذي قضاه الله تعالى.
وأخيرا لا تكن أخي الفاضل ممن يرفض النصيحة، ويقلب الحقائق لينتصر لنفسه، ضاربا بالأصول والقواعد الثابتة عرض الحائط،
فخير الناس من إذا نُصِحَ قَبِل النصيحة، واتّهم نفسَه بالتقصير، وحاول أن يرجع لجادة الطريق.
نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق.
أ. د عبد الشافي الشيخ
أستاذ الدراسات العليا فى التفسير وعلوم القرآن
بجامعة الأزهر الشريف