مع الآيات

انفصام في شخصية المنافق “مع الآيات ـ حلقة 13″

حلقات يكتبها: أ.د. عبد الشافى الشيخ

استاذ الدراسات العليا بجامعة الأزهر الشريف
أستاذ التفسير وعلوم القرأن بجامعة الأزهر الشريف

فى هذه الحلقة من حلقات “مع الآيات” نتناول آيتين كريمتين من سورة البقرة، ندلل من خلالهما على الانفصام في شخصية المنافق.

يقول الله تعالى:

“وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ

وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا

مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)”.

وهاتان الآياتان حلقة في سلسلة مواصفات النفاق وأهله، يبينها القرآن الكريم بكل

دقة، ممعنا في التفاصيل لخطورة النفاق، وآثاره السلبية على كل المجتمعات التي يظهر فيها هذا المرض العضال.

والمنافق دوما متشبث برأيه، لا يرى سوى نفسه وعقله ورأيه، حتى أنه إذا ما دُعِيَ دعوة صادقة للطريق المستقيم،

كان من أشد المعارضين،

وذلك لأنه متسترٌ وراءَ نفاقِه، مستفيد منه أيما استفادة.

 

والأسرع إلى لسان المنافق أن يلقي بالتهم ويكيلها كيلا لمن يخالفُه الاتجاه والمعتقد،

فهؤلاء سريعا ما رموا المؤمنين بالسفه.

والعجب كل العجب أن هذا المنهج تواطأ عليه أهل النفاق والكفر في كل زمان ومكان،

ونفس الحوار يتكرر مع أنبياء الله تعالى، يحكي عنهم القرآن الكريم قولتهم:

“فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ

وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ”

ولذلك ينبهنا القرآن الكريم إلى هذا التواطؤ العجيب بقوله: “أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ”.

منهجَ الفساد كلّه واحد

 

وما أشبه الليلة بالبارحة، فإن منهجَ الفساد كلّه واحد، إذا دعاهم أحد إلى المنهج والطريق السليم كالوا الاتهامات،

وأمطروا من يدعوهم بوابل من السباب والشتائم والأوصاف المستقذرة، فصاحب الفكر الضال لا يمتلك حجة في الحوار،

فسريعا ما يخترق مسار الحوار بالسباب والإشاعات والأكاذيب والأراجيف، حتى يسحب المحاور للمسلك الذي يجيده،

وهو السباب والاتهامات.

وهؤلاء إذا قيل لهم: آمنوا كما آمن الناس ـ أي الناس المؤمنين ـ، اتهموا أهل الإيمان بالسفه،

والعجيب أنهم ينافقون من يتهمونهم بالسفاهة بالنهار، ويكفرون بهم ليلا،

فإذا كان الأمر كما تقولون، فلماذا تتمسحون في أهل السفه على حد زعمكم؟.

ولكنها ألسنتهم التي تكشف حقيقة زيفهم دون أن يشعروا

 

وصدق الله: “وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ”.

ومن سنن الله تعالى أنه يدافع عن الذين آمنوا، فيرد كيد الكائدين في نحورهم،

وتأبى سنةُ اللهِ إلا أن تفضحَ المنافقين في الدنيا قبل مماتهم: “ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون”.

أنظر إلى هذا الانفصام في شخصية المنافق، إذا لاقى المؤمنين يأتي بأفعالهم الإيمانية كراهيةً،

وإذا خلى بنفسه أو مع شيطانه الإنسي أو الجني فهو الكافرُ الحاقدُ على أهل الصلاح والتقى.

الإنسان أبدا لا يعيبه فعل الطاعات

 

ولعل كلمةَ “الملاقاة” توحي بأن الإنسان أبدا لا يعيبه فعل الطاعات، فلا يستحي أحدٌ أن يراه غيرُه على طاعة مهما كانت،

كما أن كلمة ” الخلوة” توحي بأن الإنسان بفطرته ينكر المنكرَ ويستحيي منه،

ولعل هذا ما عناه النبي بقوله: “الإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطلع الناس عليه”،

وإن هذه الملكة التي أودعها الله تعالى جميع خلقه، هي نداء الإيمان ونداء الفطرة التي لم تدنس بعد بفعل المعاصي،

ولا تعجب إذا أودع الله تعالى هذه الملكة حتى الحيوانات، فمنها ما إذا أعطيته شيئا أكله مطمئنا،

وما إذا أخذ شيئا عنوة أو خطفا نراه يذهب به بعيدا يأكله مستترا.

إنه نداء الفطرة في كل شيء:

 

“فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ”،

فلا تدنسوا فطرتكم بالمعاصي، بل اشحذوها واجلوها بالطاعات، ودربوا أنفسكم على الطاعة..

تكن طوعا لكم على فعل الصالحات، عندما تتمرد عليك نفسُك رودها بالطاعة،

وألزمها بالأفعال الصالحة تكن طوعا لك.

أ. د عبد الشافي الشيخ

أستاذ الدراسات العليا

فى التفسير وعلوم القرآن

بجامعة الأزهر الشريف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى