
فى الحلقة الثامنة عشر من حلقات “مع الآيات” نتناول آيتين من كتاب الله تعالى فى فى سورة البقرة:
يقول الله تعالى: “وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)”
بدأت اللهجة تتغير في شأن أولئك الذين لم تجد معهم الموعظة الحسنة والدعوة بالتي هي أحسن،
فيدعوهم القرآن الكريم إلى حلبة المنافسة التي تسكت الخصم وتخرسه،
وهذه هي الجولة الثالثة من المنافسة والتحدي.
المستوى الثانى من التحدي
حيث تحداهم القرآن الكريم قبل ذلك بأن يأتوا بمثل هذا القرآن كله بنفس حجمه وأسلوبه المتميز،
فلم يستطيعوا ولم تنطق شفاههم بكلمة واحدة،
ثم سحبهم القرآن الكريم إلى مستوى ثان من التحدي ليطمّعهم ويشعرهم بأن مأمولَهم قريبٌ جدا منهم،
فيلهبَ حماسَهم، ويستدرَّ قريحتَهم، فيطالبهم فقط بعشر سور مثله،
بعد أن كان التحدي بمثل القرآن الكريم كله، فما اسطاعوا أن يحاكوه وما استطاعوا له ندا.
النزول بالتحدي إلى أقل درجاته
وهنا في الجولة الثالثة من المنافسة والتحدي، يشعرهم القرآن الكريم بأن مقصودَهم الذي يبحثون عنه أقرب إليهم من أطراف أصابعهم،
فينزل معهم في التحدي إلى أقل درجاته، فيطالبهم فقط بسورة من مثله،
أي من مثل القرآن الكريم أسلوبا وبلاغة وفصاحة وتشريعا وإعجازا،
أو من مثله أي من مثل محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يجيد القراءة ولا الكتابة،
ثم يأتي بما يعجز البشر كل البشر، فأنّى لهم هذا.
وقعت هذه الآية عليهم موقع الصاعقة التي كشفتهم وفضحتهم أمام أعينهم،
وعلموا ساعتئذٍ أن عنادَهم وطغيانهم وافترائهم على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا محل له، فصغُروا أمام أعينهم،
إلا أنهم استمروا في المكابرة والعناد لأغراض دنيوية سرعان ما زالت.
بابُ التحدي ما زال مفتوحًا على مصراعيه
وما زال بابُ التحدي مفتوحًا على مصراعيه، إلى كل من يجد في نفسه القدرة على معارضة القرآن ومبارزته فليرنا نفسه،
وله الحق في أن يستعين بما شاء ومن شاء، إنه كلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. تنزيل من حكيم حميد،
وهكذا إذا لم تنفع الكلمة الطيبة في الدعوة إذن تقهرهم المنافسة المسكتة،
وهو ما سلكه القرآن الكريم معهم، دعاهم بالحسنى فلم يستجيبوا ففضحهم على رؤوس الأشهاد بالتحدي الصارخ،
والإعجاز المفحم، وزاد من إحراجهم بقوله: “وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين”.
إن تحدي القرآن الكريم كان على الملأ، وهكذا الحق دوما يتمتع بهذه الجرأة، فصاحب الحق لا يستتر ولا يعرف الاجتماعات السرية المشبوهة،
والحق دوما تحفه الأنوار، وصوت الحق دوما يصدح دون خفاء أو استحياء.
ثم يقطع الله عليهم كل أمل في المبارزة بعد أن أمهلهم فقال: “فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا” فيُؤبّد العجزَ عليهم مستخدما حرف “لن” التي تفيد التأبيد كما ذكره الزمخشري،
فلن تستطيعوا معارضة القرآن بكلامكم السخيف، الذي أضحك عليكم الصبية قبل اللغويين،
إذا كان الأمر كذلك ولزمتكم الحجة الدامغة، فكونوا على حذر من عقاب الله لكم، فاتقوا النار التي أعدها الله لكم جراء عنادكم وكفركم وطغيانكم بدون حق، قل: فلله الحجة البالغة.
النار التي أعدها الله للكافرين والمكذبين به، خلقها الله خصيصا لتكون مآلهم ومآبهم، ومن خصائصها أنها تقوى بأهلها كما تقوى النار بالحطب، فوقودها هم أهلها وأصحابها، ومعهم الحجارة التي كانوا يعبدونها من دون الله.
أ. د. عبد الشافى الشيخ
أستاذ الدراسات العليا
فى التفسير وعلوم القرآن الكريم
يجامعة الأزهر الشريف