وما يسطرون

د. أحمد على سليمان يكتب : الحج في زمن الوباء (2/1)

نموذج لمثالية الطب الوقائي ومظاهر التيسير وإدارة الأزمات في الإسلام

د. أحمد على سليمان
د. أحمد على سليمان
عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

خلقنا الله تعالى بيده الشريفة، وشرَّفنا بالعقل وإرسال الرسل، وهيأ لنا الدنيا وذللها لنا، لكي يكملَ بعضُنا بعضًا،

ويساعدَ بعضُنا بعضًا، ويُسعد بعضُنا بعضًا، ويحترمَ بعضُنا بعضًا، ويحافظَ بعضُنا على بعضٍ.

وخلقنا لنتكامل جميعًا من أَجلِّ إعمار الكون، وإسعاد الحياة بمنهج الله، وحدد لنا الغاية من وجودنا في هذه الحياة، وهي:

1- عبادة الرحمن

2- عمارة الأكوان

3- رعاية الإنسان

وعبادة الرحمن تتطلب شخصيات قوية في إيمانها، قوية في أخلاقها، قوية في أجسادها، بل تسمتد قوتها بعلاقتها بربها،

فالإسلام إذًا يريد مسلمًا تجري في عروقه دماء الصحة، والقوة، والسلامة، والعافية، والأخلاق، والإبداع، والإتقان، والإحسان.

وكذلك الحال في عمارة الأكوان، وأيضا في رعاية الإنسان.

وتحقيق هذه الغايات يتطلب الحفاظَ على النفس البشرية عمومًا، وعلى الصحة العامة خصوصًا،

وقد أمر الله بالحفاظ على الإنسان -فهو بنيان الله- وجعل له حرمة وقداسة،

ولذلك تضافر كثيرٌ من الآيات القرآنية، مع الأحاديث والتطبيقات النبوية، والقواعد الفقهية؛ لتحقيق ما سبق.

الطب الوقائى فى الإسلام سبق حضارى وإنسانى

 

وقد كان تكوين منهج الطب الوقائي في الإسلام، سبقًا حضاريًّا وإنسانيًّا في العناية الفائقة بصحة الإنسان والحفاظ عليه..

بل إن الله سبحانه وتعالى قد جعل كثيرًا من العبادات والشعائر الدورية، سببًا في المحافظة على المسلم،

ووقايته من الأمراض بشكل مستدام، كالوضوء، والغسل، والطهارة، يقول رسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ):

(أَرَأَيْتُمْ لو أنَّ نَهْرًا ببَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ منه كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هلْ يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟

قالوا: لا يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ، قالَ: فَذلكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بهِنَّ الخَطَايَا)

(أخرجه الإمام مسلم في صحيحه).

وهذه الشعائر تضمن حال القيام بها الآتى:

– ديمومة السلامة والوقاية.

– وتجنيب الناس كثير من المخاطر وانتقال الأمراض.

– والأمر بالعلاج من المرض عند وقوعه لا قدر الله.

وقد حرَّم الله سبحانه الاعتداء على النفس بأي صورة من صور الاعتداء، ومن ذلك:

تحريم الخمور والمسكرات والمخدرات، والنهي عن الولوج في مواطن الأذى، واعتزال النساء وقت المحيض.

وشدد النبي (عليه الصلاة والسلام) في النهي عن التبول والغائط في الماء، وعن الاقتراب من الأرض الموبؤة،

وعن ترك الإناء بدون غطاء أو السقاء بدون وكاء، وطالب بغسل اليدين عند الاستيقاظ من النوم،

وديمومة النظافة والطهارة بالماء، واستبدال التيمم بالوضوء إذا تحقق الأذى من استعمال الماء، وغيرها كثير، هذا من جانب.

التيسير ورفع المشقة والحرج

 

ومن جانب آخر جعل الله -عز وجل- التكاليف الشرعية قائمة على التيسير ورفع المشقة والحرج،

حيث تقوم على المتاح والمباح، وجعلها في مقدور المكلفين على اختلاف الفروق الفردية بينهم،

وجعل في العبادات مظاهر التيسير الكثيرة؛ لتناسب الأشخاص، والأحداث، والأحوال، والظروف، والجوائح…إلخ.

والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وقواعد الفقه الكلية، كلها تصب في هذا الاتجاه.

يقول الحق تبارك وتعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ)(البقرة: 286)،

ويقول: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق: 7)،

ويقول تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)ِ(البقرة:195)،

وقال سبحانه: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء: 29)، ويقول جل جلاله:

(..مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ…)

(المائدة: 32).

إذًا حرَّم ربنا -سبحانه وتعالى- علينا أن نقتل أنفسنا، أو أن نعرضها للهلاك، أو أن نتسبب في هلاك الآخرين أو إيذائهم.

ويقول (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ): (لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ)( أخرجه الإمام السيوطي في الجامع الصغير).

مبادئ عامة:

ونتناول هنا عدة مبادئ عامة حتى يكون لدى القارئ الكريم وعي بقضية (الحج في زمن الوباء)

أولا: أن جائحة فيروس كورونا المستجد لا تزال مستمرة حتى الآن، نسأل الله أن يرفعها عن بلادنا وعن العالم.

وهى عبارة عن مرض معدٍ، سهل الانتقال والانتشار، من خلال: الاختلاط، والاقتراب، واستعمال الأدوات والمرافق المشتركة،

وكل مصاب من السهل أن تنتقل عدواة إلى غيره.

ثانيًا: إن شعيرة الحج تأثرت بعدد من الأوبئة والطواعين، على مدار التاريخ الإسلامي،

وقد مرَّ على العالم الإسلامي منذ فجر الإسلام ظروف وعقبات متكررة حالت بين المسلمين وأدائهم لشعيرة الحج

وذلك بسبب: فقدان الأمن، أو الخوف من الأوبئة والطواعين والأمراض الخطيرة.

سبق حضاري إلى التعاطي مع الأوبئة:

 

ثالثًا: إن رسول الله (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ) تحدث عن الطاعون والوباء، ووضع معايير السلامة والوقاية

والحجر الصحي قبل العالم كله بمئات السنين، وقبل أن يحدث طاعون أساسا في بلاد المسلمين.

يقول (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ): (…َفإِذَا سَمِعْتُمْ به -أي الطاعون- بأَرْضٍ، فلا تَقْدَمُوا عليه،

وإذَا وقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُمْ بهَا، فلا تَخْرُجُوا فِرَارًا منه) (أخرجه الإمام البخاري في صحيحه).

ونفهم من هذا الحديث الشريف عدة أمور:

1- سبق النبي (عليه الصلاة والسلام) إلى وضع معايير دقيقة للوقاية والحجر الصحي وعزل المصابين،

وحصر الوباء في أضيق نطاق.

2- جعل الالتزام بذلك من المطالب الإيمانية والأوامر الشرعية واجبة التحقيق والتطبيق.

3- وهذا الحديث يكشف عن جوانب الإعجاز في الإخبار عن الله سبحانه، ويبرهن للعالمين على صدق المعصوم (صلَّى اللهُ

عليه وآله وسلَّمَ)؛ إذ لم يحل بأرض المسلمين الأوبئة والطواعين إلا بعد وفاة النبي (عليه الصلاة والسلام)

وبالتحديد في سنة 18هـ عندما ظهر طاعون عَمَواس.

طاعون عَمَواس وعام الرمادة:

 

ووفقا للمصادر التاريخية المعتبرة فإن أول وباء حلَّ بأرض المسلمين هو الطاعون الذي وقع بقرية عَمَواس

وهى إحدى قرى فلسطين، وسمي باسمها، وذلك سنة 18هـ، وعمَّ بلاد الشام،

وتوفِّي فيه عدد كبير من الصحابة والتابعين، وعدد كبير من جيش المسلمين، قيل خمسة آلاف،

وأوصلها بعضهم إلى عشرين ألفا أو أكثر.

(راجع: نصير بهجت فاضل: الطواعين في صدر الإسلام والخلافة الأموية: دراسة في المصادر العربية والإسلامية).

وفي هذا العام الذي اشتد فيه البلاء، عانت المدينة المنورة من المجاعة والقحط؛ فسمي هذا العام بعام الرمادة بسبب

اسوداد الأرض من قلة المطر، حتى أصبح لونها شبيها بالرماد.

خبرة عملية وفقهية ومنهجية حضارية مبكرة في إدارة الأزمات:

 

رابعًا: ونظرا لتعرض الحج والمسلمين لمثل هذا الوباء عبر التاريخ، فقد تَكوّنت لدى المسلمين خبرةٌ عملية متنوعة

وواسعة في مجال طب الأوبئة والطواعين وإدارة أزماتها، فالمحن دائمًا ما يكون لها دور في دفع الأمم نحو التعلم والابتكار،

ومن بينها: “الكيفيات والتدابير التي واجهوا بها الطواعين وحاربوها مجتمعيًّا وصحيًّا وبيئيًّا، بل وصل الأمر بهم إلى البحث عن

كيفية معالجة فساد الهواء، وذلك عن طريق إيقاد النيران وإحراق المواد ذات الروائح العطرية، ومعالجة الماء عبر الأواني

الخزفية، وغيرها من الأمور التي نستخلص منها الرؤى والدروس والعبر البليغة في الحاضر والمستقبل”.

(د. أبو الفضل عبد الرحيم أنكيس: قراءة في مؤلفات علماء المسلمين في الأوبئة والطواعين).

وذلك فضلا عن اجتهاداتهم الفقهية المعتبرة التي تؤكد عالمية الإسلام، وصلاحيته لكل زمان ومكان،

وقدراته الخلاقة على التعاطي مع المشكلات والتحديات والجوائح، وتفعيل الرخص لرفع الحرج والمشقة،

ومظاهر التيسير التي تفضل الله سبحانه وتعالى بها علينا؛ للحفاظ على النفس البشرية.

الطريقة الحضارية فى إدارة الأزمة

 

ونعرض هنا للطريقة الحضارية الرائعة التي تعامل بها ولاة أمور المسلمين آنذاك في إدارة الأزمة إبان طاعون عَمَواس،

حيث تعاملوا بحرفية وبعلمية وبمنهجية، ومن ذلك:

الأمر بعدم دخول المكان الذي ظهر فيه الطاعون.

والأمر بعدم الخروج من المكان الذي حدث فيه الطاعون.

وتوجيه السكان بالصعود على الجبال في الهواء الطلق.

ومنع التجمعات للحد من تفشي الطاعون.

وغيرها من إجراءات النظافة، وقد نجم عن هذه الإجراءات خفة حدة الوباء، ثم زواله بعد أن مكث عدة أشهر.

وتعد هذه الطريقة من أوائل طرق تطبيق الحجر الصحي المعروفة في التاريخ الإسلامي،

والهدف منها عزل المناطق الموبوءة.

 د. أحمد علي سليمان

عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى