نشر حديثاًوما يسطرون

د. أحمد على سليمان يكتب : الحج في زمن الوباء (2/2)

نموذج لمثالية الطب الوقائي ومظاهر التيسير وإدارة الأزمات في الإسلام

د. أحمد على سليمان
د. أحمد على سليمان
عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

تحدثت فى المقال السايق عن الحج فى زمن الوباء، وعن الطب الوقائى فى الإسلام، وكيف أنه سبق حضارى وإنسانى،

ونستكمل فى هذا المقال ما بدأناه، حيث تكلمنا فى أربعة بنود عن الحج فى زمن الأوبئة،

ونتحدث هنا فى البند الخامس عن فرائد شعيرة الحج:

خامسًا: إن شعيرة الحج من الشعائر الإسلامية السنوية الكبرى، وهى الركن الخامس من أركان الإسلام، ومن رحمات الله

تعالى بالمسلمين أنه فرضها عليهم شريطة القدرة والاستطاعة، قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ

سَبِيلا) (آل عمران: 97)، وقول النبي (عليه الصلاة والسلام): (إنَّ الإسْلامَ بُنِيَ علَى خَمْسٍ: شَهادَةِ أنَّ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وإقامِ

الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وصِيامِ رَمَضانَ، وحَجِّ البَيْتِ) (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه) فهذه الشعيرة واجبة على المسلم،

القادر عليه، المستطيع لأداء شئونه، ومناسكه، وتكاليفه.

ويتفرد الحج عن غيره بضرورة الاجتماع في أماكن مخصوصة، وفي أزمنة مخصوصة، ويأتي لأدائها حجاجٌ من شتى دول العالم

(وبعضهم يحملون أمراض بلادهم)، ويجتمعون في أقدس بقاع (مكة المكرمة، والمدينة المنورة)، وهذه الشعيرة تضم: إحرامًا،

وصلوات فردية وجماعية، وطوافًا حول البيت الحرام، وسعيًا بين الصفا والمروة، ووقوف جميع الحجيج بعرفة والمشعر الحرام،

ورمي الجمرات،…إلخ، وما تفرضه هذه الأمور من الاختلاط، والاحتكاك، والاقتراب الشديد، فضلا عن المساكن المشتركة،

والمرافق الضرورية المشتركة، وركوب الحافلات المشتركة…. إلخ.

(راجع: أ.د/ حميد لحمر: الحج في زمن جائجة كورونا “كوفيد 19”).

ما الذي يجب علينا بعد التوصيف والتشخيص؟

وبعد هذا التوصيف والتشخيص لوضع الجائحة وطبيعة شعيرة الحج، فإننا من هنا، نؤكد ما يلي:

1- أن القول الفصل في هذا الوباء الخطير وغيره، منوط أولا بأهل الذكر، وأهل الذكر هنا هم الأطباء، فأقوالهم معتمدة ونافذة.

وقد قرر الأطباء من خلال: التجربة، والمختبرات، ودراسة الواقع أن هذا الوباء ينتشر وينتقل من شخص إلى آخر، ومن جهة إلى

أخرى، ومن بلد إلى آخر وكله بتقدير الله وبإذنه تعالى.

2- على جماهير العلماء الاحتكام إلى القواعد الفقهية المساعِدة في ضبط النازلة، ومحاولة تنزيل الأحكام الشرعية عليها

بشكل دوري، تعاطيًا مع التطورات والمستجدات من خلال: القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والاعتماد على مقاصد الشريعة

الإسلامية والقواعد الفقهية.

3- أن طاعة ولي الأمر واجبة، ولولي الأمر ما يلي:

– أن يسِّنَ من التشريعات ما يحقق المصلحة العامة.

– يُصدر من القرارات التي من شأنها منع تفشي الأوبئة.

– إلزام الناس بالتداوي في بعض الأحوال، مثل: الأمراض المعدية.

– عزل المصابين بالمرض المعدي؛ إذا ثبت يقينًا أن مرضهم سيهدد سلامة المجتمع.

– إلزامهم بالتحصينات؛ إذا قرر أهل الذكر وجوب ذلك (أ.د/ حميد لحمر: الحج في زمن جائجة كورونا “كوفيد 19”).

ويجب على أولي الأمر أن يكونوا مع مَن تحت تصرفهم رحماء وبمنزلة الأب المطاع مع أطفاله وأهل بيته، وعلى عموم

المواطنين الالتزام بتعليماتهم.

4- على جماهير الأمة كثرة الدعاء والاستغفار حتى يرفع الله الغمة عنا وعن العالم.

تحقيق المصلحة العامة للمجتمع بالوقاية والسلامة من الوباء

سادسًا: قرر العلماء والفقهاء أن تحقيق المصلحة العامة للمجتمع بالوقاية والسلامة من الوباء، مقدمةٌ على تحقيق مصلحة

الفرد في أداء فريضة الحج، والتي من شروطها الاستطاعة، وهى مفقودة في مثل هذه الظروف، بناء على تقدير الأطباء، وولاة

الأمور والفقهاء في البلد المضيف أولا، ثم في بلاد المسلمين ثانيا.

سابعًا: تفعيل القواعد الفقهية وتطبيقها.

وهناك قواعد فقهية عظيمة تؤكد ما سبق أن أشرنا إليه من الرخص ومظاهر التيسير، ومنها:

• قاعدة: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)، بمعنى أن إبعاد المفاسد عن الناس، مقدم على جلب المصالح لهم؛

فمثلا: لو تعارضت المصالح مع إبعاد الأذى عن الناس، قدَّمنا -على الفور- درء المفاسد وإبعاد الأذى، على جلب المصالح.

• قاعدة: (لا ضرر ولا ضرار)، وبناء على هذه القاعدة، فإن المصاب بهذا المرض المعدي لغيره، يَسقط عنه الحج ما دام على

هذه الحال؛ لتحقيق المصلحة العامة، ولتحقق الضرر، وهو هنا ظلم، والظلم محرم في كل الكتب السماوية، كما أن مصلحة

الحج تعود على الشخص نفسه أكثر مما تعود على غيره.

• قاعدة: (الضرر يُزال)، أي عند حدوثه، والأفضل ألا يحدث الضرر من الأساس، وهذا يقتضي أن نكون على قلب رجل واحد.

الخـــلاصة:

نخلص مما سبق إلى:

1- أن حفظ الأبدان مقدم على إقامة شعائر الأديان، وأن الدين قائم على اليسر ورفع المشقة والحرج، وأن الرخص الشرعية

ومظاهر التيسير من أجلِّ نعم الله تعالى ورحمته بالإنسان، وأن الواقع المعاصر الآن أثبت أهمية الأخذ بالرخصة والتيسير ورفع

الحرج في شعيرة الحج وفي غيرها، ويجب أن نطبقها بضوابطها، لاسيما في مثل هذه الظروف.

2- لا بد من الأخذ بالأسباب والتوكل على الله سبحانه وتعالى، مع التأكيد على أن الالتزام بالإجراءات الاحترازية والوقائية يعد

من سبيل الأخذ بالأسباب.

3- على المجامع الفقهية دراسة أبعاد قضية جائحة كورونا برمتها بشكل دوري في ضوء تطوراتها، بالتعاون مع أهل الذكر وهم

الأطباء، من أجل اتساق الفتاوي والقرارات مع مقاصد الشريعة الإسلامية.

4- يجوز للسلطات في البلد المضيف تعليق شعيرة الحج أو تقليص عدد الحُجاج بناء على مدى خطورة الوضع،

والآثار المترتبة عليه.

ضرورة وضع الضوابط التي تضمن سلامة الحُجاج

 

5- ضرورة وضع الضوابط التي تضمن سلامة الحُجاج وسلامة المجتمعات سواء في المملكة،

أو في البلد الأصلي الذي قدِم منه الحاج.

6- حرمت الشريعة الإسلامية على حامل الفيروس أن يخالط الأصحاء؛ حتى لا يتسبب في نقل المرض إليهم.

7- أن التدابير الوقائية والإجراءات الاحترازية التي تقررها الدول على الحُجاج والعاملين في خدمتهم واجبة التطبيق.

8- قرر العلماء أنه يجوز لولي الأمر تقييد المباح، وإذا قيَّده وجب الالتزام بالقيد إلى حين حل هذا القيد.

9- إذا كانت طاعة ولي الأمر وأهل الاختصاص واجبة عمومًا، فإنها تكون من أوجب الواجبات في الشدائد،

والملمات، والأزمات، والجوائح.

10- أنَّ هذا الداء مُسقط لوجوب الحج على المصاب، إلى حين التعافي التام منه.

11- لا يجوز التحايل في البحث عن سبل للوصول إلى الأماكن المقدسة في الحج بدون إذن السلطات، وأن تعمد المصاب

التحايل على القوانين واللوائح، حتى يتمكن من الحج حرام شرعًا.

12- لا مانع شرعًا من تعليق شعيرة الحج أو العمرة إذا استشرى الوباء؛ شريطة أن يكون القرار مبنيًّا على دراسة علمية،

وعلى رأي جماعي، كما يجوز قصر الحج على أعداد معينة، أو بلد، أو بلدان معينة؛ إذا رأوا أهل الذكر ذلك.

والله تعالى أعلى وأعلم.

نسأل الله تعالى أن يُعجل برفع البلاء والوباء عن الأمة، وعن العالم أجمع.. وبالله تعالى التوفيق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى