الخطيئة تحيط بصاحبها.. “مع الآيات ـ حلقة 52 ”
حلقات يكتبها: أ.د. عبد الشافى الشيخ

أستاذ الدراسات العليا
بجامعة الأزهر الشريف
فى الحلقة 52 من سلسلة حلقات “مع الآيات” نتناول الآيتين 80 و81 من سورة البقرة، يقول الله تعالى:
“وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ *
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ”
مع فِريةٍ جديدةٍ وقبيحةٍ جديدة من قبائحَ بني صهيون، حيث افتأتوا على الله تعالى، ونازعوه ملكَه وحكمَه، فقضوا لأنفسهم
بأنهم لن تمسهم النار إلا أيّاما معدودات.
فاختاروا لأنفسهم أقلّ الكيف بقولهم: “لن تمسنا” ومعلوم أن المسَّ هو أقلُّ مراتب الاحتكاك بين الأجسام، مع ملاحظة
تعبيرهم بلن التي تفيد عند أكثر العلماء “التأبيد”.
ثم اختاروا لأنفسهم أيضا أقل الكم فقالوا: “أياما معدودات” هي مدة وصولهم إلى شجرة الزقوم – على حد زعمهم –
وهذا لا يستغرق أكثر من أربعين يوما على الأكثر.
انظر إلى جُرأتهم على الله وافتآتهم عليه بهذه الصورة الفجّة، التي لا يراعون فيها خصوصيةَ للهِ تعالى، ولكنَّه الكبرُ والعنت
الذي يصور لصاحبه أنه على حق، ويزيّن له كلَّ شر.
لكن ما يسترعي الانتباه هنا هو: أسلوب القرآن الكريم الراقي، الذي لا ينفعل أمام الافتراءات مهما بلغت من سوء الأدب
والتبجح، ليتنا نتعلم من القرآن الكريم هذا الهدوء المنبعث من مقام القوة والرسوخ، ليتنا نقدّم الحوار العقلي على الانفعال
الذي عادة لا يأتي بالخير.
لا يقابل عنادهم بعناد ولا تبجحهم بعنفوان
القرآن الكريم مع أنه على الحق، ومع وثوقه بالحق، إلا أنه لا يقابل عنادهم بعناد، ولا تبجحهم بعنفوان، مع أنه قادر
على الحكم بعكس ما يقولون، إلا أنه يربّي أصحابَه على الهدوء والطمأنينة فيقول في هدوء جمّ: “قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا
فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ”.
يا لها من محاورة راقية، هل عندكم من عهد أخذتموه على الله تعالى، وساعتئذ نعدكم بأن الله لن يخلف ما وعدكم به، أم هو الكذب والافتراء على الله بغير الحق، والتقوّل على الله بما لا قبل لكم به.
والأمر كذلك: إنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويتبجحون مع الله تعالى، مفتأتين عليه في ملكه وحكمه.
ثم يأتي الجواب الرادع بمثابة الصاعقة التي أفاقتهم من ثباتهم العميق: “بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ”، أفيقوا يا منحرفين فإن من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته، ونتوقف هنا عند تعبير
القرآن الكريم في جانب الخطيئة أنها تحيط بصاحبها، فينغمس فيها فلا يرى من خلالها النور، فيظلّ قابعا في شَرَكِها،
متقوقعا في براثنها، فيزلِف من معصية إلى أخرى، وهكذا يختم الله على قلب صاحب المعصية، ويفهم من هذا التعبير
أن الحسنةَ مطيةٌ لصاحبها، أما المعصيةَ فهي التي تركب صاحبَها وتثقل كاهلَه، وصدق الله إذ يقول: “وإنا أو إيّاكم لعلى هدى
أو في ضلال مبين”، ففي جانب الهدى عبّر بـ”على” التي تفيد الاستعلاء، وفي جانب الضلال عبر بـ”في” التي تفيد المحليّة
والانغماس، فمن أحاطت به خطيئته يصعب أن تجدى معه الهداية مرة أخرى، ولذلك حكم الله عليهم بأنهم أصحاب النار
هم فيها خالدون.