
“الغنم بالغرم” هو عنوان الحلقة السادسة عشر من حلقات “مع الآيات”، ونتناول فيها آيتين من سورة البقرة:
يقول الله تعالى: “أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)”.
إن سياسة الانتقاء هي سياسة مرفوضة في كل الأيدولوجيات القديمة والحديثة،
والعلاقة مع الله تعالى أيضا لا تبعد عما تعارف عليه البشر في هذا المقام، فلا انتقاء ولا اقصاء.
إن حقيبة الإيمان حقيبة متكاملة ومتناغمة، شرعها وأقرّها من يعلم السر وأخفى،
ومن يريد بعباده الخير كله، ولذلك نعى القرآن على هؤلاء الذين ينتقون في إيمانهم وعقائدهم بقوله:
” أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض”.
ليس من الإسلام فى شيئ
إن من يتّبع الإسلامَ وأوامره في المنشط، والمكسب فقط، ليس من الإسلام في شيء،
فهناك جانبُ التكليف الذي لابد منه، والالتزام بأوامر الله تعالى قدر الطاقة، واجتنابُ نواهيه على سبيل الفور.
وفي الآية الكريمة الأولى من هاتين الآيتين يشير القرآن الكريم إلى أن الصيّبَ من السماء،
وهو خيرٌ يتلقاه الناس بالفرح والرضا، لابد وأن يسبقه شيء من العواصف والرعد والبرق المخيف صوته،
وكذلك الظلمات التي قد تسبق سقوط المطر، والكيّس من تحمل هذه المقدمات ليحصّل النتائج المرجوّه.
هذا تماما كالطالب الذي يتحمّل عناءَ المذاكرة والسهر والتعب رجاء أن يحصّل النجاحَ،
فكذلك الصيبُ من السماء يحتاج إلى صبر على المكاره،
ما أسهل الوصولَ إلى النار
وكذلك جنة الله تعالى تحتاج إلى صبر على المكاره، ألم يقل نبينا صلى الله عليه سولم: “حفّت الجنة بالمكاره”.
وما أسهل الوصولَ إلى النار، فقط باتباع الشهوات، وعدم إلزام النفس بما تستصعبه، أما الجنة فالوصول إليها بالصبر والمثابرة:
“واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم”، “يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا”.
ولكن علامة المنافقين كما بيّنت الآيةُ الكريمة، أنهم لا يصبرون على المكاره، فقط يريدون النفع المحض غير المكدّر،
فإذا سمعوا صوت الرعد والبرق وضعوا أصابعهم في آذانهم، رافضين ما يأتي به الرعد والبرق ولو كان خيرا،
واشتروا المتعة العاجلة بالآجلة، لم تتجاوز نظرتهم تحت أقدامهم، فخاب صنيعهم في الدنيا وساء مآلهم في الاخرة.
هذا المثال الذي ضربه الله للمنافقين يرسم لنا طريق الفلاح لمن أراد: فلا جنة دون عمل وصبر على الطاعة، والبعد عن المعصية أيضا.
وإذا وضعنا هذا المثل مع قوله تعالى واصفا فعل المنافقين: “وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى”،
فالقرآن الكريم يصدّق بعضه بعضا، وهذا هو دأبُ المنافقين يستصعبون التكاليف، ويرونها تكبيلا لهم وكبتًا لحرياتهم،
وأما المؤمنون فنظرتهم للتكاليف نظرة إيجابية، وإلا ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أرحنا بها يا بلال”.
أجملُ العبادة ما يفعلها العبد وهو مقبلٌ على الله فرحٌ بها
بل إن الله تعالى يكرهُ من عباده أن يعبُدوه كُرها، فأجملُ العبادة ما يفعلها العبد وهو مقبلٌ على الله فرحٌ بها، سعيدٌ لتوفيق الله إياه للقيام بها.
ولما دخل النبي المسجد ووجد حبلا بين ساريتين، سأل فأخبر أنه لزينب رضي الله عنها.
تصلّي حتى تفتُر أي تُجهَد وتَتعب، فإذا تعبت تعلّقت بالحبل لتكمل الصلاةَ، غضبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأمر بأن يزيلوا هذا الحبل، لأن العبادة تقتضي نشاطا لا تعبا وإعياءً، ثم قال :” ليصل أحدُكم نشاطَه، فإذا فتر فليرقُد، فإن الله لا يملّ حتى تملّوا”، ومعنى ” حتى ” أي إن الله لا يملّ وتملّون، فحتى بمعنى الواو كما قال سادتنا أهل اللغة.
يا سادة: الله تعالى غنيٌّ عن عبادتنا، فلا تنفعه عبادةُ من عبد، كما لا يضرُّه عصيانُ من عصى، ولذلك فلا يقبلها إلا عن رضى من العبد، وعلامةُ النفاق استثقالُ الطاعة، ولو أنهم فعلوها طواعية ومحبة عن نشاط وإقبال لأنتجت عشقا ومحبة، ولذاقوا طعم القرب من الله فاستحسنوها ووجدوا فيها لذتهم وفسحتهم، وهذا معنى قوله:” يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”
فالله تعالى مستغن عن عبادة من يعبده، وحقٌّ علينا أن نشكرَه لأن سمح لنا أن نقف بين يديه ونناجيه، فمن نحنُ حتى يسمحَ لنا اللهُ بهذا الشرف العظيم، والله إنه لشرف، ونعمة لا يقدّرها قدرَها إلا من ذاقَها، وقديما قالوا:” من ذاق عرَف، ومن عرف اغترف”
اللهم يا ربنا أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
أ. د. عبد الشافى الشيخ
أستاذ الدراسات العليا
فى التفسير وعلوم القرآن الكريم
يجامعة الأزهر الشريف