الفكر الأحادي يؤدى إلى الكفر .. “مع الآيات ـ حلقة 57 ”
حلقات يكتبها: أ. د. عبد الشافى الشيخ

أستاذ الدراسات العليا
بجامعة الأزهر الشريف
فى الحلقة 57 من سلسلة حلقات “مع الآيات” نتناول الآية 91 من سورة البقرة، يقول الله تعالى: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ”
دائما ما نكرر وننصح بعدم الانغلاق أمام الآراء والأفكار، حتى لا تُغرد منفصلا وحيدا بعيدا عن السِرب، وإن من أسوأ خصائص الفرق الضالة أنهم لا يسمعون إلا أنفسهم، ولا يعتقدون إلا في رموزهم ومشايخهم فقط، فإذا جاء الحق من غيرهم عاندوه وناصبوه العداء، أما لو صدَر من أعلامِهم فهو الرأيُ السديدُ الذين يفدونه بكل ما يملكون، وما أشبه الليلةَ بالبارحة، إن الفكر الضال كلَّه واحد، يُسقى من رافد واحد، ونتاجُه متشابه لحد التطابق أحيانا مهما اختلفت العصور والبلدان.
القرآن الكريم هنا يمثّل في براعة فائقة – كعادته – خطرَ هذا الفكر الأحادي الذي لا يقنع إلا بما لديه حتى ولو كان ما لديه خطأ، فيعرض صورةً بل قبيحةً من قبائح الأفكار الضالة فيقول: إذا قيل لهم من قِبَل الدعاةِ إلى الهدى وإلى الطريق المستقيم، سواء أكان الداعي نبيّا أو داعيًا يدعوهم إلى الطريق المستقيم، فإذا ردُّهم يأتي صادمًا، وحجتُهم تأتي واهيةً لا يقبلها إلا من غاب عقلُه، حجةٌ لا تقوى على مجابهة أدنى اعتراض، فبضاعتهم فقط التشبث.. نعم التشبث.
التشبث بالموروث القديم، التشبث بالعقائد القديمة والأفكار التي أكل عليها الزمن وشرب، فقط تلك هي حجتهم، يرفضون الجديد فقط لأنه جديد، محبِطون مثبِّطون متقوقعون على أنفسهم، تماما كما نعاني اليوم من أصحاب الفكر الأحادي الضال، لا يسمعون ولا يتفاهمون ولا يتناقشون، سلاحهم الرفض والتكفير والتبديع، لا يملكون حجة البتة.
فضحهم القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة بأنهم متمسكون بتراثهم وحسب، ويعلنون الكفر في وجه كل ما هو وراء تراثهم وأفكارهم. فنرى نفوسَهم قد سمحت ببعض ما التبس عندهم لما يوافق أهواءهم، ثم يكفرون بما وراء حظوظهم، إرضاء لهواهم وشهواتهم التي يخفونها وراء هذا الادعاء الزائف.
مع أن الدين الجديد المدعوين إليه هو الدين الحق والطريق الصدق فضلا عن أنه مصدقا لما بين أيديهم ولا يختلف في الأصول عن أمهات العقائد غير المحرفة.
ثم يضعهم القرآن الكريم في مأزق حواري، فيسألهم: لم تقتلون أنبياء الله من قبل، إن كنتم حقا تدعون الإيمان بالله والكتاب الذى نزل؟
أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ: إنْ كنتم تصدِّقون التوراةِ فلِمَ تقتلون أنبياءَ اللهِ، “مِن قَبْلُ”، وليس فيما أُنزلَ عليكم قتلُ الأنبياءِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ” ِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ”، أي فلِمَ تقتلونَ أنبياءَ الله إنْ كنتم مؤمنينَ بالتوراةِ وقد نُهيتم فيها عن قتلِهم؟.
ولعل في قوله تعالى: “من قبل” إشارة من طرف خفي إلى عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من قتلهم تحقيقا لقوله تعالى: “والله يعصمك من الناس” كأنه يقول لهم: كان القتل للأنبياء من قبل ولن تستطيعوا أن تقتلوا محمدا – صلى الله عليه وسلم – فقد كان هذا من قبلُ أي فيما سلف من القرون والأزمنة الغابرة، أما الآن فقد عصم الله نبيه من أن تطاله يد الغدر منكم فلن تمسَّه يدُكم المؤذيةُ بسوء.