المادية البغيضة.. “مع الآيات ـ حلقة 42”
حلقات يكتبها: أ.د. عبد الشافى الشيخ

فى الحلقة 42 من سلسلة حلقات “مع الآيات” نتناول الآية 61 من سورة البقرة، يقول الله تعالى:
“وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا
وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا
فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ”
يحتاج الإنسان في حياته إلى إشباع الروح كما يُعنى جيدا بإشباع الجسد، وغذاءُ الروح
يحتاج إلى الروحانيات والغيبيات، والإيمان بها يغذي الروح، لكنّ الإيمان بالغيب يحتاج إلى ثقة بمن تؤمن له،
ولذلك رتّب الله على الإيمان بالغيب الثواب العظيم وجعله من علامات الإيمان الأساسية وبعدها تأتي العبادات والمظاهر الخارجية.
طغت عليهم المادية البغيضة
بنو إسرائيل ماديون -شأنهم شأن أيّ فكر إلحادي ضال – لا يؤمن إلا بالمادة، ولا يؤمن إلا بالمُحسات والمشاهدات، أنعم الله
عليهم برزق يتطلب منهم فقط الثقة بما وعدهم الله به، يصبح كلٌّ منهم فيجد طعامَ يومِه: “المنّ والسلوى” دون جهد منهم،
لكن شريطة ألا تدخِر طعام اليوم إلى الغد وإلا فسَد، ليجدد فيهم الإيمان بالغيب، ويعلّمهم الثقة بوعود الله تعالى، وهو طعام
طيب لم يحلموا يوما أن يحصلوا عليه بهذا الشكل.
وهنا طغت عليهم المادية البغيضة التي تذهب بروح الإيمان، وتُفسد العلاقةَ بينهم وبين الله، لا يثقون فيما وعدهم الله به،
قالوا: يا موسى لا نريد رزقا غيبيا وإن طاب وحسن، نحن نريد رزقا تراه أعينُنا ينموا ويكبر ونتعهده حتى ولو كان أدنى درجات الرزق.
وقد يسأل أحدُهم: وهل الرزق فيه درجات أدنى ودرجات أعلى؟
نقول: هناك نوعان من الرزق، رزقٌ مباشر من الله لم تطاله يد البشر، وهذا نسميه رزق أعلى لأنه خالص من الله لم تتعهده
يد البشر. وهو ما رزقه الله لبني إسرائيل من المن والسلوى.
وهناك رزق من الله أصلا لكن تتعهده يد البشر بالزراعة مثلا أو الصناعة، المهم أنه يد البشر تطاله وتتدخل في تحضيره
بشكل أو بآخر. وهو ما طلبه بنو إسرائيل من أنواع الخضروات والمحاصيل التي يزرعونها.
ما يعنينا في هذا المقام أنّ نعم الله تعالى لابد أن تُقابل بالشكر والعرفان، لا بالاعتراض والتعنّت كما فعل بنوا إسرائيل،
لمّا اعتدوا في الطلب من الله، وأنكروا نعم الله عليهم، وكانت مطالبهم فجةً وفيها تطاولٌ واجتراءٌ على الله، كانت النتيجة
كما حكاها القرآن الكريم، أن ضرب عليهم الذلة والمسكنة، وجعلها لصيقة بهم، ورجعوا من الله بغضب وطردٍ من رحمته،
واستحقوا ذلك لتعدد قبائحهم، يقتلون الأنبياء بغير الحق الذي شرعه الله تعالى، أو بغير حق ولا مصوغ شرعي أو حتى
عقلي، فضلا عن كفرهم بآيات الله، وعلى رأس هذه القبائح أنهم كانوا يعتدون في المعاملة مع الله تعالى، فلا يقدرونه حقَّ
قدره، وكانت مطالبُهم لا تتناسب مع حجمهم أمام الله، كما أنهم يعتدون في أنهم يبارزون الله بالمعاصي دون حياء أو خجل.
كل هذا وأكثر كان سببا في أن ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، وألحق بهم غضبه، وهي سنة من سنن الله لا تتبدل
ولا تتغير، ونسأل الله العفو والعافية.