المُعمِّرون هم خلفاء الله.. “مع الآيات ـ حلقة 22″
حلقات يكتبها: أ.د. عبد الشافى الشيخ

هذه هى الحلقة 22 من حلقاتنا المسلسلة “مع الأيات”، نعيش فيها مع الأية 30 من سورة البقرة، تحت عنوان: “المُعمِّرون هم خلفاء الله” .
يقول الله تعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ”.
إن هذه الآية من الآيات التي توضح السنن الإلهية في القرآن الكريم، وهي سنة الاستخلاف،
فإن الله تعالى خلقنا على هيئة الاستخلاف، أي أننا خلفاء الله في الأرض – على ما ذهب إليه ابن عباس وابن مسعود
وكما يرويها الإمام الطبري: حيث قال الإمامان في الآية إن المعنى: “إني جاعل في الأرض خليفةً منّي يخلفني”.
كن معمرا في الأرض ليس مخرّبا فيها
إنك أنت أيها الإنسان خليفة لله في أرضه، فاتق الله في ما استخلفك الله فيه، وكن معمرا في الأرض وليس مخرّبا فيها،
ففرقٌ بين الإنسان الذى يبني ويشيّد ويعمّر في الأرض، وبين الإنسان الذى يُفسد فيها،
ولذلك جعل الله أشدَّ العقوبات المقررة في الإسلام لمن يسعى في الأرض فسادا، لأنه يعاند سنة الله في كونه وخلقه.
ولقد خلقنا الله في الأرض وملّكنا إياها بعد أن ذلّلها لنا، ليرى منا التعمير والإنشاء: “هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا”.
إن كل ما يدعو إلى الإعمار وإلى الإصلاح في الأرض، فهو موافق لسنة الله تعالى في خلقه، منخرط في سلك ما يريده الله،
وأما من يخرب ويقتل ويفسد في الأرض يهلك الحرث والنسل، فهو بعيد كل البعد عن منهج الله ومراده.
مقياس ومعيار موافقة المنهج الإلهي
ويمكننا أن نجعل ذلك هو المقياس والمعيار لموافقة المنهج الإلهي، ليرى الإنسان هل هو على الطريق القويم أو لا،
ومن خلال هذا المعيار يمكننا الحكم على من حولنا خاصة إذا تضاربت الأقوال،
فإذا كان الإنسان يُعمِّر ويبني ويشيّد ويطوّر، إذن هو من المصلحين الذين فهموا المعنى الحقيقي للاستخلاف عن الله تعالى.
وإذا كان إنسانا يخرّب ويهدم ويدمر ويقضي على الأخضر واليابس، إذن هذا الإنسان من المفسدين في الأرض،
ونحمد لله تعالى الذي جعل لنا ضوابط واضحة في القرآن الكريم، لنتعرف من خلالها على المصلح ونفرق بينه وبين المفسد.
ليس شرطا أن تزرع لتأكل أنت
وإن من كمال الإيمان أن يستشعر كل فرد منا أنه خليفة لله تعالى في الأرض، فيعمل الإنسان على عمارتها ما دامت روحه في جسده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
“إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها”.
إنها سنة الإعمار والبناء، وليس شرطا أن تزرع لتأكل أنت، ولا أن تبني لتسكن أنت، فقد زرع آباؤنا فأكلنا،
وبنى أجدادُنا فسكنا، وهذا هو المفهوم الحقيقي لخلافة الله في الأرض،
فالخلافة ليست كلمة أو لقبا يحصل عليه الإنسان بالدم والتخريب والترويع، ولكنها منهج يطبقه من أوتي مسكة من فهم.
الملائكة يتعجبون من مبدأ الإفساد
وإن الملائكة يرفضون مبدأ الفساد، بل إن الملائكة يتعجبون من هذا المنهج، فكيف يخلق الله الأرض على هيئة الصلاح فيفسد الإنسان فيها، ويسفك ما حرمه الله من الدماء.
إن الله يخلق الأرض على هيئة الصلاح، فيفسد الإنسان فيها، ويحترم التشريع الإنسان ويكرمه، فيهدرون كرامته
ويستبيحون دمه: “وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ”.
ولكن الله تعالى يرى فينا الأمل الكبير، مما خفي على ملائكته، فيقول: ” إني أعلم مالا تعلمون”.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن استعملهم لعمارة الكون وبناء الأوطان.
أ. د. عبد الشافى الشيخ
أستاذ الدراسات العليا
فى التفسير وعلوم القرآن الكريم
يجامعة الأزهر الشريف