مع الآيات

النفاق تجارة كاسدة.. “مع الآيات ـ حلقة 14”

حلقات يكتبها: أ.د. عبد الشافى الشيخ

استاذ الدراسات العليا بجامعة الأزهر الشريف
أستاذ التفسير وعلوم القرأن بجامعة الأزهر الشريف

الحلقة الرابعة عشر من حلقاتنا المسلسلة : “مع الآيات” نعيشها مع آيتين كريمتين من سورة البقرة.

يقول الله تعالى: “اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ

اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)”.

الله تعالى لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون، لما أظهر المنافقون

الإيمانَ وخبئوا الكفرَ في باطنهم، عاملَهم

اللهُ تعالى بمثل صنيعهم، فيظهر لهم النعم في الدنيا، بينما يضمر لهم العذاب الأليم

يوم القيامة جزاء ما فعلوا، ولعل هذا يترجم لنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:

” إن الله يعطي الدنيا لمن أحب ومن لا يحب”.

حق على المضيف أن يكرم ضيفه وإن لم يحبه

 

فالعطاء في الدنيا ليس دليلا على محبة الله، فهو من كرم الضيافة، إذ الخلق ضيوف الرحمن، وحق على المضيف أن يكرم ضيفه وإن لم يحبه.

وبالتأكيد ليس كلُّ صاحبِ معصية – وإن قَلَّت- يستهزئ به اللهُ، أو يمدُّ له في معصيته، إن الحديثَ هنا عن فئة بعينها استمرأت

المعصية، إنها مرحلة يصل إليها المرء بكثرة معصيته لله على علم، مع تبجحه واستمرائه لفعل المعصية مجاهرةً ومكابرةً منه،

وتكون فتنتُهم من جنس ما فعلوه، ولهذا عبّر القرآنُ بقوله ” يمدهم” من المدّ، ولم يقل يُمددهم من الإمداد،

وبينهما من الفرق ما لا يخفى.

فالمدّ يكون من جنس ما هم فيه، والإمداد يكون من خارج ما هم عليه، فهذا يؤكد أنهم استحقوا هذا المد بسبب فعلهم

وصنيعهم القبيح مع الله تعالى، حتى يصلوا إلى مرحلة العمه، هو أشد من مجرد العمى الذي قد يصيب العين المبصرة،

وأما العمه فهو ما يصيب البصيرة، وإذا عميت البصيرة فلا شيء يفيد.

دفعوا الإيمان وقبضوا على الكفر

هؤلاء ـ من تقدم وصفهم ـ استبدلوا الخبيث بالطيب، دفعوا الإيمان وقبضوا على الكفر، وكان بإمكانهم – ساعة الاختيار الذي

منحه الله لهم- أن يختاروا الإيمان على الكفر، ولكنهم استبدلوه، وبدلا من أن يَعضُّوا بنواجذهم على الإيمان دفعوه وأمسكوا

بالكفر، مقدّمين اللذة العاجلة على اللذة الآجلة الخالدة، وهذا سر التعبير بالاشتراء، فلا بد للمشتري أن يكون قابضا على

الثمن قبل دفعه للبائع، وهذا لا يتحقق في حق الكافرين هنا إلا بهذا التقدير الذي ذكرته.

إنها التجارة مع الله تعالى قد تكون خاسرة وقد تكون رابحة، فمن باع نفسه لله فقد ربح بيعه، ومن اشترى ملذاته العاجلة،

فقد خسر خسرانا مبينا، وصدق رسول الله : “كل الناس يغدوا فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها..” أعتقها من باعها برضى الله،

وأوبقها من باعها بسخط مولاه، إنها حقا تجارة، ألم يقل النبي لأحدهم:” ربح البيع أبا يحي”؟ ألم يقل ربنا: “إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ

الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ”؟

لا تجلعوا للخلق فيها حظا ولا نصيبا

اجعلوها تجارة مع الله، لا تجلعوا للخلق فيها حظا ولا نصيبا، والله سترون عجبا عجابا، لأن التجارة مع الله ليس فيها إلا الربح

الوفير في الدنيا والآخرة.

تصدقوا من أجل الله لا من أجل الخلق، سامحوا من أجل الله لا من أجل الخلق، اعلموا كل الصالحات من أجل الله لا من أجل

الخلق، لا تجلعوا حظا من أعمالكم للخلق أو للرياء، فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار هشيم الحطب.

أ. د. عبد الشافى الشيخ

أستاذ الدراسات العليا

فى التفسير وعلوم القرآن الكريم

يجامعة الأزهر الشريف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى