
فى الحلقة 46 من سلسلة حلقات “مع الآيات” نتناول الآيات من 67 إلى 71 من سورة البقرة، يقول الله تعالى:
“وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ
مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ
بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ
فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ
فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ”.
ضرب بنوا إسرائيل النموذج الأسوأ في اللجاجة والعناد، بل الغطرسة والمجاهرة بالكفر، شددوا فشدد الله عليهم،
وهو نموذج حذرنا منه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: “لا تشددوا فيشدد الله عليكم”، وقال “إن الدين متين فأوغلوا فيه
برفق فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى” وقال أيضا: “لن يشاد الدين أحد إلا غلبه”
مجموع هذه النصوص وغيرها تتضافر على أمر مهم، وهو أنه حرام على العباد أن يردوا أوامر الله بالمنهج الشيطاني المعروف:
منهج الاعتراض من أجل الاعتراض، منهج التبجح والعناد، منهج الجدال العقيم من أجل السفسطة وحسب.
جميع ما أمر الله به هو في صالح البلاد والعباد
إن أوامر الله تعالى لابد أن يتلقاها العبد بنفس هادئة مطمئنة، ويعتقد اعتقادا جازما أن جميع ما أمر الله به هو في صالح
البلاد والعباد، تحقيقا لقوله تعالى: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”، وهي قصة للعظة والاعتبار.
روى المفسرون أنه كان في بنى إسرائيل رجل غنى، وله ابن عم فقير لا وارث له سواه، فلما طال عليه موته قتله ليرثه،
وحمله إلى قرية أخرى فألقاه فيها، ثم أصبح يطلب ثأره وجاء بأناس إلى نبيهم موسى – عليه السلام – يدّعى عليهم القتل،
فسألهم موسى – عليه السلام – فجحدوا فسألوه أن يدعو الله ليبين لهم بدعائه القاتل الحقيقي، فدعا موسى ربه
فأوحى الله – تعالى – إليه أن يطلب منهم أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ..” وما أرشدهم
إليه نبيهم – عليه السلام – كان كافيا لحملهم على أن يذبحوا أى بقرة تنفيذا لأمر ربهم، ولكن طبيعتهم الملتوية المعقدة
لم تفارقهم، فأخذوا يسألون كما أخبر القرآن عنهم بقوله: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ..” مرة بعد مرة.
إجابة المربى الحكيم للأتباع السفهاء
وسؤالهم بهذه الطريقة ينم عن سوء أدبهم مع الله – تعالى – ومع نبيهم موسى – عليه السلام – لأنهم قالوا “ادْعُ لَنا رَبَّكَ”
فكأنما هو رب موسى وحده، لا ربهم كذلك، وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعنى موسى وربه ومع هذا فقد أجابهم إجابة
المربى الحكيم للأتباع السفهاء، مرة تلو مرة ليقطع عليهم الحجة.
وبعد أن أرهقوا موسى عليه السلام بكثرة الأسئلة التي لا طائل من ورائها فلو عمدوا إلى بقرة – أي بقرة – فذبحوها لكفتهم،
ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم، فكأنهم يقولون له: الآن – فقط – جئتنا بحقيقة وصف البقرة، فقد ميزتها عن جميع ما عداها،
من جهة اللون وكونها من السوائم لا العوامل، وبذلك لم يبق لنا في شأنها اشتباه أصلا. وكل هذا صدر منهم على سبيل
التعنت والعناد، فجزاهم الله بكفرهم ما هم به أحق.