بئس البيع بيعهم .. “مع الآيات ـ حلقة 56 ”
حلقات يكتبها: أ. د. عبد الشافى الشيخ
فى الحلقة 56 من سلسلة حلقات مع الآيات نتناول الآيتين: 89 و90 من سورة البقرة، يقول الله تعالى: “وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ”.
القرآن الكريم هنا يحكي حالة انفصام غريبة من هؤلاء اللذين ضلوا، يطلبونه من الله فإذا جاء على خلاف مرادهم يعادونه ويناصبونه العداء والتعنّت.
الاستفتاح: طلب الفتح، والفتح ضربان، فتح إلاهيّ، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم والهدايات، وفتح دنيوي، وهو النصرة في الوصول إلى اللذّات البدنية والشهوات.
وقد كان من فعلهم أنهم يستعملون خبره صلى الله عليه وسلم مع الناس مرة، وقيل يطلبون من الله بذكره صلى الله عليه وسلم الظفر، وكانوا يقولون: إنا ننتصر بمحمد عليه السلام على عبدة الأوثان، وكلّ ذلك داخل في عموم الاستفتاح، فبين الله تعالي من جهلهم أنهم كانوا ينتظرونه، وكانوا يعرفون وصفه كما قال تعالى: “يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَكُمْ”، وكما قال: “النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ”، فلما جاءهم كتابٌ لا منافاة بينه وبين التوراة في الأصول، وعرفوا عيانا ما كانوا عرفوه من قبل إخباراً كفروا به، ثم قال: “فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ” تنبيها أن اللعن ثابت للكفار، وهم كفار، فاللعن عليهم، وأما معنى اللعن فهو إقصاء على وجه الإهانة.
والحقيقة أنه: صعب جدا أن يحكم الله على أحد بعينه أو على أهل مذهب بعينهم أنهم ملعونين، فمن لعنه الله وطرده من رحمته مَن يدخلُه إلى ساحةِ القرب ثانيةً؟
ومن أبعده الله فمن يقربه؟
فحذار أن يصدر في حقك – أيها القارئ الكريم – قرارٌ من الله تعالى فيجعلك بعيدا عن فيوضاته أو رحماته وساعتئذ لن تجد لك من دون الله وليا ولا نصيرا.
“بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ”.
بئس: كلمة تستعمل في الذم، كما أن “نعم” تستعمل في المدح، وأصله من البؤس، وهو المكروه وتصور منه الفقر تارة، فقيل بئيس للفقير لما يرسمه الفقر على ملامحه من التذلل والخضوع والاستكانة.
وقد يكون التذلل ممدوحا إذا كان لله أو على سبيل خفض الجناح للمؤمنين كمال امتدح الله تعالى المؤمن بأنه هين لين: “أذلة على المؤمنين” فلا منافاة بينهما
والمعنى: أنه بئس شيئاً باعوا أنفسهم به كفرهم بكتب الله المنزلة، ثم بيّن تعالى أن هذا الجنس من الناس حسدوا بعض الناس على ما آتاهم الله من فضله كالنبوة وغيرها، وكأنهم أوصياء على الله تعالى في توزيعه لأفضاله واختصاصه من يشاء من عباده بالفضل والنبوة، ثم بين أنهم بذلك استحقوا بذلك أنواعا من الغضب نوعاً بعد نوع نحو قوله: “يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابِ” أي يزيد الله عليهم جرم العذاب بقدر تعنّتهم وتجرّوئهم على الله، وفوق كل هذا لهم عذاب يهينهم من الله فالجزاء من العمل، أرادوا أن يهينوا حكمة الله في عطائه، فتوعدهم الله بعذاب يهينهم يوم العرض عليه، فيرد الحقوق إلى أصحابها ويعيد الأمور إلى نصابها، يعز من يشاء ويذل من يشاء.