
الحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمنا ، وجعل القلوب تهفو لرؤيته، وتستروح الأرواح عبقه مهما تباعدت الأماكن ونأت
البلاد بالعباد ، فهو أمان القلوب ومستقر رحمة الرب الودود.
وأصلي وأسلم على صاحب الروضة الشريفة التي يفوح المسك منها فينتشر على الوجود كله ريحان روحه العطرة المباركة.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأوليائه وأزواجه وكل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
ثم أما بعد: فبعد أن يهل الحاج بالإحرام والتلبية، يشرع بعد ذلك في أعمال الحج،
وأول ما يبدأ به الحاج هو الطواف بالبيت الحرام سبعة أشواط، وإنما بدأت أعمال الحج بالطواف ليقرأ الإنسان في أشواطه
السبعة سنوات حياته الماضية كلها،
ولذا كان الطواف عكس اتجاه عقارب الساعة، فكـأنه رجوع بالزمن، أو كأن الحاج في هذه الأشواط السبعة يعود بالزمن فيقرأ
صفحات حياته كلها، ليمحو منها كل صفحاتها المظلمة والملبدة أو المشوبة بالمعاصي، وليضع مكانها صفحات مضيئة حتى
يعود من الطواف وقد تحولت كل صفحاته إلى صفحات بيضاء تشرق بنور الإيمان وتتلألأ بمعاني السمو والارتقاء.
الطواف ثلاثة في ثلاثة في ثلاثة
والطواف في الحج أنواع ثلاثة: طواف القدوم وهو أول طواف الحجاج عند دخولهم مكة، وطواف الإفاضة وهو الطواف بعد الإفاضة
من عرفة، وطواف الوداع وهو آخر عهد الحجيج بالبيت الحرام.
وعندي أن الطواف ثلاثة في ثلاثة في ثلاثة:
فأما الثلاثة الأولى فطواف القدوم فهو طواف حول البيت، وفيه طواف بما مر من سنين العمر حتى تمحى منها السيئات، وفيه
طواف بالبصيرة حتى ينكشف لك من عالم الملكوت ما لم تدركه من عالم الملك.
وأما الثلاثة الثانية فطواف الإفاضة بعد يوم عرفة، وفيه طواف الروح في عالم الملكوت حتى تبلغ البيت المعمور فتطوف به مع
الملائكة وتشاهد من جمال أنواره وجلال أسراره، حتى إذا أفاضت من البيت المعمور بعد تلك المشاهدات امتلأ القلب بالنور
فأصبح وهو يرى بنور الله.
ثم هو فيه بعد ذلك طواف فيما أفاض الله عليك من نعمه حيث اختارك لتكون في ضيافته وأفاض عليك من كرمه ما جعلك تعود
من عرفات مغفور الذنب حتى أنه تحمل عنك التبعات التي عليك للآخرين، فهو طواف فيما أفاض الله علينا من جميل نعمه
وعظيم عطاياه لأهل الموقف.
وأما الثلاثة الأخيرة: فطواف الوداع وهو اللقاء الأخير وفيه ترى من جلال الكعبة وجمالها ما لم تره من قبل، هنا تتجلى لك
الكعبة المشرفة في أبهى حلة وأروع مشهد، هنا تسمع التسابيح والتراتيل كأنك تستمع إليها لأول مرة في حياتك، هنا
تسفر لك الكعبة المشرفة عن وجه يزيد حسنه على كل حسن رأته عيناك، هنا ترى الكعبة المشرفة بيت الله الحرام وتشعر
بقدر من الأمن والأمان والراحة والسكينة كما لم تشعر بها في حياتك كلها.
بل هو طواف بقلبك وعقلك وكل وجدانك
فأنت هنا لا تطوف بجسدك بل هو طواف بقلبك وعقلك وكل وجدانك، وهنا تجد تعلقا بالكعبة هو التعلق بسر الحياة والوجود
كله، وهنا يتجدد الشوق ويزداد الحنين إلى الكبة وهي أمامك.
حتى إذا بلغ الحاج تلك المنزلة أضحى يطوف حول البيت بقلبه ووجدانه فيتعشق قلبه كل ناحية وكل لمحة في الكعبة حتى
يتحول القلب إلى كعبة هي محراب عبادته لله بعد ذلك.
وهنا نوع آخر من الطواف في الأنواع الثلاثة جميعها، فإن أهل الصفاء تطوف أجسادهم حول الكعبة وتطوف قلوبهم حول البيت
المعمور ، أما أرواحهم فإنها هناك في الملإ الأعلى تطوف حول العرش لترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد
ربهم ، وساعتها لا تعود الروح من هذا الطواف أبدا بل تظل طائفة في عالم الملكوت لا تعود منه إلى عالم الملك حتى تفارق الروح الجسد.
دكتور صبري الغياتي
عضو المكتب الفنى لوزير الأوقاف