دراسة بقلم:
الدكتور أحمد علي سليمان
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القدس الشريف أهم مدينة في العالم بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، من حيث عدد المآثر الموجودة فيها، وعدد الأشخاص الذين يقدسونها حول العالم.
شرَّف الله القدس وجعل أرضها مهبط الرسالات السماوية، ومهدًا لكثير من الأنبياء.
وللقدس الشريف مكانة دينية خاصة في قلوب المسلمين في شتى بقاع الأرض،
فقد شرَّفها اللهُ تعالى بوجود المسجد الأقصى المبارك فيها، وهي أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى نبينا الكريم سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ومعراجه.
جمع الله تعالى فيه الأنبياء ليلة الإسراء والمعراج
إن القدس الشريف هو المكان المبارك الذي جمع الله تعالى فيه الأنبياء ليلة الإسراء والمعراج،
وفي المسجد الأقصى صلى سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) بالأنبياء إمامًا،
ليعلن الله تعالى للعالمين أن النبوة قد انتقلت من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل (سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام).
كما صلى في ساحاته أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف،
ورفع الصحابيُّ الجليل بلال بن رباح الأذان بصوته الندي في هذا المكان المبارك.
وفي ثراه الطاهر دُفن كثيرٌ من الصحابة الكرام والأولياء والصالحون والعارفون.
ومن الصحابة الذين دفنوا هناك:
سيدنا عبادة بن الصامت أول قاض في الإسلام، وسيدنا شداد بن أوس، وغيرهما (رضي الله عنهم جميعًا).
وكثير من الناس لا يعلمون أن الإمام “أبو حامد الغزالي” – رضي الله عنه – عاش فترة طويلة في المسجد الأقصى،
وكتب فيه كتابه العظيم “إحياء علوم الدين”، وهناك مبنى في المسجد توجد به غرفته القديمة.
ويشهد التاريخ أن الفترة الوحيدة التي شهدت فيها مدينة القدس هدوءً وسماحة فائقة، كفلت لأتباع شتى الأديان أن يصلوا إلى أماكنهم المقدسة في حرية تامة، وأن يؤدوا شعائرهم الدينية بحرية وأمان، هي فترة الحكم الإسلامي للمدينة التي امتدت ما يقرب من إثني عشرة قرنًا من الزمان.
ولقد اشتهر المسجد الأقصى بحلقات العلم عبر التاريخ، ونظرًا لكثرة العلماء وطلاب العلم، اتخذ العلماء المصاطب التي هُيِّئَتْ ليجلس عليها الطلاب للاستماع إلى الدروس.
وتقدر عدد المصاطب في ساحات المسجد الأقصى بقرابة الثلاثين مصطبة، أنشئ بعضها في العصر المملوكي، وغالبها في العصر العثماني.
دور كبير في التفاعل الحضاري والثقافي وقبول الرأي والرأي الآخر
وقد انفرد القدس الشريف بمجالس المناظرات بين أقطاب الديانات السماوية الثلاث،
إلى جانب احتضانه لمختلف الفرق الكلامية كالمعتزلة والإمامية، إضافة إلى استيعابه للتناظر بين المدارس الفقهية مثل الشافعية والحنفية وغيرهما.
وهذا المناخ العلمي الذي اتسم بالتباين العقدي، والاختلاف المذهبي، والاختلاف الفقهي، أسهم في تعرف المجاورين على علوم لم يشاهدوها من قبل،
كما رصدوا الظواهر الاجتماعية كبعد العامة عن الصراعات السياسية. وكذلك رُصِد اعتكاف المرأة في المسجد الأقصى..
ومن ثم كان للمسجد الأقصى دور كبير في التفاعل الحضاري والثقافي وقبول الرأي والرأي الآخر، وقبول الاختلافات بين بني البشر، وبالتالي كان مركزًا للحوار والسلام بمعناه الشامل.
إلغاء مناهج التعليم العربية في مدينة القدس
وبعد استيلاء «الكيان الصهيوني» على معظم أراضي فلسطين، أصدر ديفيد بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، أمرًا بجمع شتى الوثائق الفلسطينية، ومنَع الاطلاع عليها، مِن قِبل أية جهة (إسرائيلية أو غير إسرائيلية).
واتخذ الكنيسيت الإسرائيلي قراره بعد الحرب بثلاثة أسابيع، وتحديدا في 27 يونيو 1967 بضم القدس إلى إسرائيل.
ولأجل تنفيذ هذه الخطوة نَقلت إسرائيل بعض مقراتها الحكومية إلى القدس.
وكان أول قراراتها إلغاء مناهج التعليم العربية في مدينة القدس، وإطلاق الأسماء اليهودية على الشوارع والساحات.
كما هدمت حي المغاربة في القدس، وأجْلت سكانه بأكملهم من المدينة، وكذلك أجلت أغلبية سكان حي الشرف.
وفى المقابل أقامت حزامًا من تسعة أحياء سكنية يهودية حول المدينة، وهو الأمر الذي استهجنته اليونسكو التي طالبت إسرائيل بالتوقف عن تشويه طابع المدينة الحضاري.
إجراءات إجرامية خبيثة لمحو التاريخ العربي
وقد بدأت إسرائيل عدة إجراءات إجرامية خبيثة لمحو التاريخ العربي، بالحفريات التي أجرتها أسفل المسجد الأقصى، للبحث عن بقايا الهيكل المزعوم لسيدنا سليمان عليه السلام، أو معبد الملك سليمان.
وعلى الرغم من عدم اكتشافهم لأي من آثار هذا المعبد، فإن هذه الحفريات الخطيرة تسببت في تصدع عدد من المباني التاريخية في محيط الحرم الشريف.
جريمة إحراق المسجد الأقصى:
تمت جريمة إحراق المسجد الأقصى المبارك يوم 21 أغسطس 1969م، حيث قام بها “مايكل دينس روهن” اليهودي الديانة والأسترالي الجنسية.
وهذا الحريق دمَّر منبر “نور الدين زنكي” الذي خطب من فوقه صلاحُ الدين الأيوبي، وكذلك مسجد عمر بن الخطاب بالحرم القدسي، ومحراب زكريا… وتم قطع المياه عنه، ومنع سيارات الإطفاء من المشاركة في إخماد الحريق…!!.
وتوالت اقتحامات المستوطنين اليومية لساحات المسجد الأقصى، وأداء طقوس تلمودية،
والقيام باستفزاز المصلين بشرب الخمر والرقص والغناء فيه، ويعد ذلك جريمة في القانون الدولي بحق الأماكن المقدسة.
ناهيك عن محاولة منع الأذان في مدينة القدس، وذلك أيضًا يشكل أحد معالم الحرب المتواصلة على بيوت الله من المستوطنين.
ولا تزال أماكن العبادة الإسلامية في القدس والمعالم الأثرية والمقابر الإسلامية تنتهك، وجميعها ذات قيمة دينية تاريخية ثقافية.
اعتبار مدينة القدس عاصمة موحدة لإسرائيل
وفى 30 يوليو 1980م أقر الكنيست الإسرائيلي اعتبار مدينة القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ونقل رئاسة الدولة والحكومة والكنيست إليها.
وفى اليوم التالي، انعقد مجلس الأمن وأصدر القرار رقم 478، وأدان فيه هذا الضم،
واعتبره انتهاكًا للقانون الدولي، ودعا الدول الأعضاء إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية من المدينة.
وهذا القرار الذي صدر بأغلبية 14 صوتًا مع امتناع الولايات المتحدة عن التصويت،
وهو ما التزمت به الجمعية العمومية للأمم المتحدة بكامل أعضائها،
حيث لا يوجد أي بعثة أو سفارة أجنبية في مدينة القدس
حتى إصدار الرئيس الأمريكي ترامب قراره الخطير بنقل السفارة الأمريكية للقدس.
فلسطين قبل عام 1948م:
ويجدر بنا هنا أن نُفند بالوثائق، مزاعم إسرائيل المحتلة، ودعايتها المضللة التي تدعي فيها زورًا وكذبًا “عدم وجود شعب فلسطيني ودولة فلسطينية،
وأن فلسطين كانت خالية إلا أقلية من بعض السكان العرب الرُّحل، أو القادمين إليها من الدول المجاورة!!”.
فقد كانت في فلسطين خطوط سكك حديدية بُنيت منذ العهد العثماني،
وتصل بين معظم المدن الفلسطينية، وتمتد من حدود لبنان إلى حدود مصر.
وكانت في فلسطين مطارات، مثل مطار اللد ومطار القدس، تستقبل الخطوط الجوية الدولية، مثل:
الطيران السويسري، والطيران الفرنسي، وكانت في فلسطين موانئ، أهمها:
ميناء حيفا، الذي كان يحتوي على مصافي بترول دولية، توزع البترول على شتى المنطقة المجاورة لها.
وكانت في فلسطين دوائر إدارية:
منها مركزية في القدس، وفرعية في شتى المدن الفلسطينية، بموظفيها ومستنداتها وأوراقها،
وكذلك بنوك عربية مختلفة في المدن الفلسطينية، وكانت في فلسطين بلديات وطرق تصل جميع مدنها ومعظم قراها.
كانت في فلسطين إذاعة، ودوائر بريد، ودوائر مطبوعات، وصحف، ومتاحف، وكانت في فلسطين مصانع لسبك الحديد،
ومصانع لهياكل السيارات، ومصانع للنسيج والزيوت والصابون والزجاج،
إضافة إلى الحرف اليدوية المتعلقة بالسياحة الدينية، ونهضة عمرانية لا تزال آثارها موجود حتى الآن،
وكانت في فلسطين مئات المدارس الحكومية والأهلية، والكليات الصناعية والزراعية،
وكانت فيها المسارح، ودور السينما، والنوادي الرياضية، إضافة إلى الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية،
والنهضة الأدبية من أدباء وكتاب وشعراء ومؤلفين.
ونستكمل هذه الدراسة عن القدس الشريف فى الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
تعليق واحد