د. أسامة فخرى الجندى يكتب: التنمُّر الإلكترونيّ

حين نذهَبُ لكتبِ المعاجم للوقوف على مفهوم كلمة (التَّنَمُّر) بعد تجريد الكلمة لأصلها، نجد أن التَّنمُّرَ: هو التوعُّد والتهدُّد.
فيقال: تنَّمر فلانٌ لفلانٍ، إذا أظهرَ تهدُّدًا؛ وأصلُه من شراسة الخُلُق، وبه سُمِّي النَّمِر، وهو السَّبُع المعروف.
ويظهر من خلال هذا التعريف أن التنمرَ قد يكون تهديدًا أو توبيخًا أو إغاظةً أو تلفيقًا أو نشرًا لشائعات أو استخدامًا لعباراتٍ غير لائقة،أو من أجل أهدافٍ أخرى على سبيل الكذب.
وبناءً على ما سبق، فالتنمّر في أدقِّ معانيه: هو عبارة عن كَلَامٍ ممزوج بغضب،
أو دلالة عن بواعث نفسٍ تَعَلَّقَ بها مجموعةٌ من الأخلاق المذمومة، كالكراهية والبغض والحسد والحقد وما شابه هذه
الأخلاق، وربما إرادة الانتقام والانتقاص والسخرية والاستهزاء من إنسانٍ مَّا لأجل شيءٍ مَّا وبكيفيةٍ مَّا، قد تكون قولًا أو فعلًا أو تعبيرًا أو سلوكًا، وبأيِّ وسيلةٍ كانت.
إنزال الضرر أو الأذى بالغير من
ولما كان هذا العصر الذي نعيشه بما فيه من وسائل التكنولوجيا الحديثة – والمستمرة في التطور – وأدواتها الكثيرة الوفيرة
وإمكاناتها المتاحة للجميع، فقد انتقل التنمر إليها؛ ليسهل معها سرعة الانتشار؛ مما يجعلنا نطلق عليه (التنمّر الإلكتروني).
ونستطيع أن نُعَرِّفَ التنمّرَ الإلكترونيَّ بأنه: إنزال الضرر أو الأذى بالغير من خلال استخدام مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة،
وذلك بطريقة متعمدة ومتكررة وعدائية. فربما وصل إلى المتنمِّر بعضُ المعلومات (غير الصحيحة) عن شخصٍ مَّا؛ ولأنه يحمل
نوعًا من الكراهية لأيِّ سببٍ من الأسباب، تجده يستغل هذه المعلومات ويبدأ في نشرها وتشييرها، وربما أضاف من عنده
كلماتٍ أو جُملًا؛ بغية أن يعيب هذا الشخصَ بها أو أن ينتقص منه أو يسخر أو يستهزأ ….. الخ. وربما أثَّر هذا التنمّر على
المتابِعين؛ مما يُصَدِّرُ لهم مشهدًا بصحة هذا الكلام وانتشار الشائعات عن المتنمَّر عليه، وهي في ذاتها غير صحيحة.
الأديان تنهى عن مجرد الاعتداء على المشاعر
وإن التنمّر له أساليب عدة، فقد يكون من خلال التعليقات التي توهم أو تنتقص من قدر الآخرين، وقد يكون من خلال تشييرالأكاذيب والأباطيل عن شخص أو مؤسسة ما، وقد يصل الأمر تجاوزًا إلى انتقاص العلماء الكبار والأئمة المعتبرين، أو الرموز والمسئولين …. وهكذا.
ويجب على المتنمِّر أن يدرك أن الأديان والحضارات قد كفلت للإنسان (مطلق إنسان) حفظ كرامته، ونَهَتْ عن مجرد الاعتداء
على المشاعر، فكيف بالنفس الإنسانيّة؟!!. وهناك القاعدة الفقهية التي تقول: (لا ضرر ولا ضرار)، وهي تبرز مقصدًا عظيمًا
من مقاصد الشرع الشريف، وهو الحفاظ على النفس الإنسانية من كل أنواع الأذى، وهذه القاعدة هي في الأصل نصُّ حديثٍ
صريحٍ عن سيدنا النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ؛ حيث قال: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ، مَنْ ضَارَّ ضَرَّهُ اللهُ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللهُ عَلَيْهِ).
فالضرر: هو إيذاء النفس بأي نوع من الأذى: ماديًّا كان أو معنويًّا. وأما الضِّرار: فهو إيقاعُ الأذى بالغير.
ويُستفاد من هذا النص المشرف أنه لا فرق بين أن يكون هذا الذي لحقه الضرر فردًا أو أكثر، مسلمًا أو غير مسلم، مواطنًا أو
أجنبيًّا، إنسانًا أو حيوانًا أو جمادًا. كما أنه لا فرق بين أن يكون هذا الضرر أو الأذى نفسيًّا، أو بدنيًّا، أو ماليًّا، أو أدبيًّا، أو صحيًّا؛
لأن النفي الوارد في الحديث جاء بـ(لا) الاستغراقية، والتي تفيد تحريم سائر أنواع الضرر في الشرع.
دفع الضرر بقدر الإمكان
وحتى نمتثل لحديث نبيّنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا بد وأن ندرك أن الضرر إما أن يكون متوقعًا، وإما أن يكون واقعًا، فالمتوقع
يتم دفعه، والواقع ييتم رفعه، فأما الضرر المتوقع الذي يُدفع، فيراد به دفع الضرر بقدر الإمكان، وهو الوقاية، ومن هنا لا بد من
ثقافة واعية لمستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي باستدعاء هذا النص النبوي المشرف؛ حتى لا يقع في التنمر على
الآخرين. وأما الضرر الواقع فيُدفع، أي يُزال ولا بد من العلاج، والمقصود هنا هو الحفاظ على الإنسان، وعلى كلّ ما يتصل به
ماديًّا، أو معنويًّا ومن ثم لا بد من ردِّ المظالم.
الأديان والحضارات تحترم الشخصية الإنسانية
ومن عجيبٍ أن (المتنمِّرَ) يرى أنه حرٌّ في تصرفه وفيما يكتب أو يغرِّد على صفحاته، وأن هذا الأمر يعد من قبيل حرية الرأي،
إلا أننا نقول: يجب أن يدرك مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة أن الأديان والحضارات تحترم الشخصية الإنسانية،
ومعلوم أن الشخصية الإنسانية لا تكون إلا مع الحرية، والتي من أنواعها (حرية الرأي)، ولكن ما مفهوم الحرية هنا؟ هل هي
حرية مطلقة بعيدة عن الضوابط الإنسانية والأدبية؟.. هل هي حرية تأتي على القيم الإنسانية والدينية؟ هل هي حرية يسير
فيها صاحبُها خلف نوازعه وأهوائه النفسية والشهوانية؟.. هل هي حرية تصل بصاحبها إلى سفاسف الأمور؟.. هل هي حرية
تعني السماح لصاحبِها بإيذاء الآخر مستترًا خلف صفحات مواقع التواصل الافتراضية؟.. أو هي حرية تجعل صاحبَها معتديًا على
غيره، أو متحكمًا فيه؟.. أو هي حرية تُطْلِقُ إرادةَ صاحبِها وعقلَه بغير قيود؟.
إن الحرية في التعبير عن الرأي تتجلى في أن يتمتع الإنسان بالمعاني الإنسانية العالية، والتي نستطيع أن نعبر عنها بــ(ضبط النفس)؛ حتى يكون الإنسان في كل تصرفاته (المرئية والمسموعة والمقروءة) صاحبَ ذوقٍ رفيع، ومن ثمّ لا يتصور أن يصدر عنه إلا كل ما يوافق الفطرة النقية، وما دعت إليه الأديان (كل الأديان) وكذلك الحضارات.
المتنمر يهدر طاقاته
وننبّه هذا المتنمِّرَ إلى أنه في سبيل تنمرّه، قد: أهدر طاقاتِه الفكرية وقدراتِه الذِّهنية وإمكاناته العقلية في اختيار العبارات والألفاظ والصِّيغ التي يمكن من خلالها التنمّر على الآخر . كما أهدر عمل الجوارح وانفعالاتها ووظائفها التي يجب أن يستخدمها فيم خلقت من أجله. وأهدر الزمان الذي يأتي شاهدًا عليه بأنه ضيّعه فيما لا يفيد. وأهدر استثمار وسائل التكنولوجيا الحديثة في غير ما ينفع. كما أن المُتَنَمِّرَ أصبح من أهل الاعتداء على الأعراض؛ لأن العِرْضَ هو مَوْضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِ مِنَ الإِنْسَانِ سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِهِ أو بدنِه أو حسَبه أَوْ مَنْ يَلْزَمُهُ أَمْرُهُ، ولا شك أن كل الأديان عملت على صيانة العِرض، ومنحها الحماية، ووضعها في مكان الصيانة والتعظيم، ووضعت كلِّ الضمانات لحمايتها من النقائص والعيوب. فلا بد من بناء ثقافة إلكترونية تتناسب مع من يستخدم مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي المختلفة بقصد إيذاء أو إحراج أو الانتقاص من أي إنسان (مطلق إنسان) بما يحطّ من كرامته الإنسانية.