د. صبرى الغياتى يكتب: بين اللغة العربية .. والقرآن الكريم

تمتلك اللغة العربية قدرات غير عادية في أساليب التعبير وطرق الدلالة على المعاني بما يجعلها حقا أم اللغات،
ففيها من أنواع الدلالات التصريح، والتعريض، والرمز، والإشارة، والإيماء، وغيرها من الدلالات التي لا تتوفر لكثير من اللغات الأخرى،
وقد اختار الله تعالى اللغة العربية كي تكون وعاء لكتابه الكريم، لأنها أشرف اللغات الحية وكما قيل: المعنى الشريف يلزمه لفظ شريف، بالإضافة إلى خصائص اللغة العربية وقابلياتها الحيوية و مرونة تعبيراتها و سعتها وغير ذلك من مميزات
من حيث الاشتقاق الصرفي، والإيجاز، والخصائص الصوتية، و إمكانية تعريب الألفاظ الواردة إليها من اللغات الأخرى،
مع ما تتمتع به من اتساع الدلالة وطرق التعبير، وغناها مقارنة باللغات، فاللغة اللاتينية مثلا بها سبعمائة جذر لغوى فقط،
والساكسونية بها ألفا جذر، بينما العربية بها ستة عشر ألف جذر لغوي. يضاف إلى هذه السعة، سعة أخرى في التفعيل والاشتقاق والتركيب.
ثابتة لم تتغير على مدى آلاف السنين
وإذا تتبعنا تاريخ اللغة العربية فسوف نكتشف أن نحوها وصرفها وقواعدها وأساليب التراكيب والاشتقاق فيها ثابتة لم تتغير
على مدى آلاف السنين، وأنها ظلت حافظة لكيانها وهيكلها وقوانينها ولم تجرِ عليها عوامل الفناء والانحلال أو التشويه
والتحريف التي حدثت في اللغات الأخرى التي دخلها التحريف والإضافة والحذف والإدماج والاختصار، ولهذا اختار الله اللغة
العربية لتكون وعاء للقرآن الكريم، فليس هناك لغة تمتلك من أدوات التعبير وتنوعها ما تمتلكه اللغة العربية،
وانظر إلى القرآن الكريم وهو يصور لنا العلاقة بين الحق تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم) وبين المؤمنين،
بل بين المؤمنين بعضهم البعض، حيث يقول تعالى: “إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا” المائدة(55)،
وقوله تعالى: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ” التوبة (71)، وكيف أن القرآن الكريم عبر بـ (وليكم، أولياء) في تصوير
المؤمنون في حفظ الله وكنفه وعنايته ورعايته
تلك العلاقة ، وهي مأخوذة من المصدر (ولاية) وهذا المصدر كما في لغة العرب يدل على أحد أمرين، الأول: أنه يدل على
التفاف شيء حول شيء وإحاطته به مثل: عمامة ولفافة وغيرها، والثاني: يدل على الحرف والصناعات نحو حياكة وخياطة
وتجارة وغيرها ، وذلك يعطينا عدة أمور، منها: أن ولاية الله ورسوله لنا “إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ” تعني أن الله تعالى محيط بنا
تحوطنا عنايته وتحفنا رعايته وترعانا عينه التاي لا تغفل ولا تنام، فالمؤمنون في حفظ الله وكنفه وعنايته ورعايته لا خوف
عليهم ولاهم يحزنون “أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ” سورة يونس (62-63)،
وهي كذلك تعني حرص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ علينا ورحمته بنا قال تعالى: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ” التوبة(128)، ثم إنها في جانب المؤمنين تجسد علاقتهم ببعض
وهي علاقة قائمة على المودة والرحمة والتعاطف والمحبة كما جاء في الحديث الشريف: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”، وهو ما يدل عليه معنى
الحياطة والالتفاف التي دلت عليه صيغة المصدر (ولاية)، كما أنها كذلك تؤكد على أن المجتمع المسلم لابد أن يتعلم ذلك
وأن يحترفه كما يحترف صناعته وتجارته، ليحترفها الأخ مع أخيه والرجل مع جاره، والابن مع أبويه، والآباء مع أبنائهم، والأزواج
بعضهم مع بعض، أن يحترفها الجميع حتى تصير عنوان المجتمع الإسلامي، ولو فقهنا هذه المعاني لأصبحنا خير أمة أخرجت
للناس كما وصفنا القرآن الكريم.
إنها حقا خير أمة أخرجت للناس
وتخيل معي أيها القارئ الكريم: أمة تسود معاني المودة والرحمة بين أفرادها، ورسولهم حريص عليهم رؤوف رحيم بهم،
وربهم من وراء ذلك كله محيط بهم يحوطهم بعنايته ويرعاهم ويحفظهم، إن أمة تحقق لها بعض هذه المعاني لهي جديرة
بالخيرية، فكيف بأمة تحققت لها كل تلك المعاني؟ إنها حقا تكون خير أمة أخرجت للناس.
وانظر بعد ذلك إلى دقة اللغة العربية التي قدمت لنا كل هذه المعاني بكلمة واحدة، وذلك فقط من خلال دلالة الصيغة وحدها،
فكيف بدلالة اللفظ ومشتقاته؟ إنها فعلا كما وصفها حافظ إبراهيم قائلا:
وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ ..
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ وَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَرَعاتِ
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
هذا أقل ما يمكن أن نذكر به لغتنا العربية لغة القرآن الكريم في اليوم العالمي لها، نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا
وأن ينفعنا بما علمنا، وصل الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.