د. صبرى الغياتى يكتب: من بلاغة الوقف المتعانق في القرآن الكريم

الحمد لله الذي نشر للعلماء أعلاما، وثبت لهم على طريق الحق أقداما، والصلاة والسلام على خير من أبان عن الحق مراده إلى الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
وبعد:
فإن للقرآن الكريم أوجه بلاغة ودلائل إعجاز كثيرة ومتعددة، فهو الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الترداد.
ولقد تحدث العلماء عن أوجه بلاغة القرآن الكريم من حيث التقديم والتأخير، والذكر والحذف، والتعريف والتنكير وغيرها مما يتصل ببلاغة النظم القرآني، على أن هناك وجه من وجوه البلاغة القرآنية لا يقل أهمية عن بلاغة النظم وهو بلاغة الأداء القرآني وطريقة القارئ في القراءة.
وفي هذه السطور سوف نتناول الحديث عن بلاغة الوقف والوصل والابتداء في الأداء القرآني،
وذلك من خلال الحديث عن تعانق الوقف في قوله تعالى:
“وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)”.
الآية في سياقها القرآني:
تأتي هذه الآية الكريمة في سياق الحديث عن اليهود الذين حرفوا الأديان وزوروا التاريخ وقلبوا الحقائق،
ثم هم مع ذلك يدعون أنهم أهل الحق وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الدار الآخرة بنعيمها المقيم لهم خالصة من دون الناس،
ولذلك يقول لهم الحق تعالى: “قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
(94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ
أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)”.
القرآن الكريم يبطل مزاعمهم
وهنا يبطل القرآن الحكيم مزاعمهم كلها من أول كلمة إذ يعبر بـ(إن) التي تفيد الشك، كما يقرر الإمام البقاعي.
وكأن القرآن الحكيم يشكك في أقوالهم ومزاعمهم جملة وتفصيلا بهذا الحرف الذي يعصف بكل ادعاءاتهم،
ثم هو يعلق الشرط بها على أمر مستحيل عليهم بعيد عن طبائعهم: “فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ”،
وهو هنا يشكك في صدقهم مرة أخرى من خلال نفس الحرف (إن)،
ولذلك يجزم بعدم تمنيهم الموت بسبب أفعالهم الشاذة والقبيحة: (وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)،
الآية إذن تأتي في هذا السياق الذي يتطلب شدة وقوة في الأسلوب لردع هؤلاء المدعين الكاذبين
الذين يختلقون الأكاذيب ويريدون من الدنيا كلها أن تصدقهم .
بلاغة الوقف والوصل في الآية الكريمة :
وفي هذه الآية الكريمة يؤكد الحق تعالى على أنهم أحرص الناس على الحياة بكل أسبابها ومعطياتها
مهما كان ذلك مخالفا للأخلاق والعقائد والشرائع السماوية والأعراف البشرية،
ولذلك عبر بفعل الوجدان ليدل على أن هذا الأمر مركوز في طباعهم ووجدانهم،
وإنما كان حرصهم ذلك لأنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أنهم كاذبين وإن أظهروا عكس ذلك.
ويمكن للقارئ أن يقرأ: “ولتجدنهم أحرص الناس” ويقف؛ ليقرر أن الحرص داء مركوز في طبائعهم
وأنهم أشد الناس حرصا على الإطلاق ، والحرص هنا ليس موقوفا على أمر معين،
بل هو الحرص في كل شيء ، ليكشف لنا طبائع تلك النفوس ومدى حرصها واستئثارها بكل خير دون غيرها،
وليؤسس لما يأتي بعده من قوله :(عَلَىٰ حَيَاةٍ)، فإذا وقف القارئ عليها مع ما قبلها من الجملة كان المعنى:
أنهم متعلقون بالحياة تعلق الجارّ والمجرور بالحرص وأن حرصهم على كل أمر هذا إنما هو نابع من شدة حرصهم على الحياة
مع علمهم بأنها زائلة عنهم أو زائلون هم عنها، وأن الموت هو الحقيقة الماثلة التي لا يمكن الهروب منها بحال.
موضع تعانق الوقف
ومن الممكن أن يضم القارئ إلى ما سبق قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ)
فيقرأ (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ)،
وهذا موضع تعانق الوقف، ليضم المشركين إلى اليهود في تلك الصفات من الحرص في الحياة وعلى الحياة على حد سواء،
وليعكس لنا طبائع تلك النفوس التي لا تعمل إلا للدنيا، وكأن القرآن الحكيم يؤكد لنا على أن تلك النفوس تؤمن بالآخرة
وتعلم أنها للصادقين في إيمانهم، وأنهم لن يكون لهم في الآخرة من خلاق وأن الموت هو أكبر مصائبهم،
لأنهم لم يعملوا لما بعده ومن هنا فهم أحرص الناس على الحياة.
وإنما جاء بالحياة منكرة ليدل على حرصهم عليها بكل ما فيها وبكل مكسب يجعلهم يملكونها أو يملكون أسبابها،
ومن ناحية أخرى ليدل أهل الإيمان على أن هذه الحياة التي يطلبها هؤلاء والذين هم أشد الناس حرصا عليها
إنما هي حياة منكرة ينكرها أصحاب الطبائع السليمة، فكثيرا ما تنقلب الحياة على أمثال هؤلاء بؤسا وتعاسة فلا يهنئون بها،
وليدل من طريق آكد على وصفهم بالبخل والشح لأن الحريص على الحيا بهذه الطريقة يكون أشد حرصا على المال
وعلى جميع أسباب امتلاكها، فهو يعيش حالة من السعار المادي لا يمكن الخروج منه.
ثم إنه يمكن للقارئ بعد ذلك أن يقرأ مستأنفا:
(وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ) ليخص القرآن الحكيم (الذين أشركوا)
بوصف غير وصف اليهود وهو قوله: (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)،
فيجعل أملهم وحبهم للحياة مغايرا لليهود فأكبر أمنياتهم أن يعمرون طويلا،
وإنما جاء التعبير الحكيم بـ (الألف) للدلالة على مطلق الكثرة،
فعلى قراءة الاستئناف يكون المشركون غير داخلين في الأوصاف السابقة من الشح والبخل والحرص وما إليها
وتكون هذه الأوصاف حكرًا على اليهود دون غيرهم، فهم قوم لهم طبيعة تخالف طبائع البشر،
مهما طال عمر الكافر فلا يزحزحة عن العذاب
ومن ثم يقرر القرآن الكريم أن الإنسان الكافر مهما طال عمره في هذه الحياة، فإن ذلك لا يبعده عن النار،
بل يؤكد القرآن الكريم أن ذلك لا يزحزحه عن العذاب، وهذه الكلمة بما فيها من تكرار أحرف وثقل تعكس حالتهم
وهم يرون العذاب ويحاولون أن يتنحى عنهم فلا يدركهم، وأنهم كأن بهم ثقل لا يستطيعون التنحي عنه ولو يسيرًا.
هذه الحال جسدها القرآن الكريم بقوله (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ)، فمهما عمروا في هذه الحياة،
فإن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله يوم القيمة.
ثم يأتي التذييل الرائع في قوله تعالى: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)، فقدم البصر على العمل،
لأن ذلك أمر خاص بعلمه (سبحانه وتعالى) وأن الحق تعالى مطلع على كل أحوالهم وخبايا نفوسهم فهو سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
والله تعالى أعلى وأعلم