صلاح عطية.. رمز التجديد في صناعة العطاء والاستثمار المثالي في عالم البشر (4/4)
بقلم الدكتور : أحمد علي سليمان
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
نستكمل ما بدأناه فى الحلقة السابقة من سيرة المغفور له بإذن الله تعالى، رجل الخير والبر المهندس صلاح عطية
جولاته في قرى مصر:
كان رحمه الله دائم التجوال في محافظات مصر ومدنها وقراها، وأعطاه الله قبولا قلما يجود الزمان بمثله، وكانت تأتيه
عشرات الوفود من كل مكان؛ لحضور أمسية دينية (كل في بلده) يعقبها تبرع (لإنشاء معهد أزهري) يقدم لها أحد المذيعين،
وتلاوة قرآنية لأحد قراء الإذاعة، وأيضا ابتهالات وأدعية ثم محاضرة دينية، وكانت تخصص لجمع التبرعات لبناء المعاهد الأزهرية
والمساجد، ويتحدث الحاج صلاح بصوته الندي، وكان إذا تحدث أسمع، وكان كلامه يصل بسرعة البرق إلى شغاف القلب،
فيحرك القلوب الميتة ويشحذ الهمم نحو البذل والعطاء، وكان يدفع مبلغًا كبيرًا في بداية التبرع، ثم يَعِدُ بمضاعفة المبلغ
إذا قام أحدُ أثرياء البلد بالتبرُّع بمثله.
ولن ينس أهل القرى قولته: “نريد حديدا يا رب، أسمنت يا رب، رمل يا رب…” فيتبرع الناس فورا ويكتبون على أنفسهم أوراقا
تلزمهم بذلك، وما أن تنتهي الأمسية إلا وقد تم جمع كل مستلزمات بناء المعهد، وهكذا في كل قرية.
ولم يَزُرِ المهندسُ صلاح عطيَّة قرية وغادرها إلا وتأثر به أهل القرية فاقتدوا به في عمل مشروعات تُغنيهم وتعفُّهم.
ثمرات العطاء:
كانت قرية تفهنا الأشراف قبل عام 1984م تعيش في ظلمات الفقر والجهل والمرض، وبعد عام 1984م عاشت تجربة
من أروع تجارب التنمية القائمة على استثمار فريضة الزكاة وكل تعاليم الإسلام المتعلقة بالتكافل والإنفاق لتؤكد
بما لا يدع مجالا للشك قوة تأثير الإسلام وضرورته لحياة الأمم والشعوب.
فإضافة إلى عدم وجود بطالة، فإن الطلاب يعملون في مزارع الدواجن ومصنعي الأعلاف وغيرها في فترة الصيف،
فلا يوجد عاطل بالقرية، كما قام كثير من الأهالي بإضافة طوابق إضافية في منازلهم لاستيعاب الطلاب المغتربين
فترة الدراسة، بمقابل مادي يتراوح ما بين 100 و150 جنيها للحجرة الواحدة في الشهر، كما زاد الرواج لدى المحلات
نتيجة حركة سيارات النقل المتعاملة مع المصانع، وكذلك الوسط الطلابي.
“تفهنا الأشراف” منعزلة عن مواطن اللهو
ويشهد القريبون من الوضع هناك أن مستوى الدراسة ممتاز للغاية حيث إن قرية تفهنا الأشراف منعزلة عن مواطن اللهو
من دور السينما والمقاهي وصالات اللهو، الأمر الذي يجعل الطلاب يفرون إلى كتبهم ومذاكرتهم أكثر من أي شيء آخر.
وينعكس ذلك على النتيجة النهائية في نهاية العام، كما أن المدينة الجامعية كسكن مجاني للطالبات بجوار الكلية،
ويتم اختيار الطالبة بها على أساس التقدير المرتفع، مما جعل المنافسة تشتعل بين الطالبات وتسبب ذلك في زيادة إقبال
الطلاب وأولياء الأمور على التقدم بالأوراق لكليات الأزهر بتفهنا الأشراف.
ونظرا لإيمانه الكامل بأن الموت أت لا محالة، فقد جعل كل الشركات التي أنشأها وقفا لله تعالى، وذلك بعد إعطاء
النصيب الشرعي للورثة، ووضع نظاما لديمومة المشروعات واستمرارية العمل من بعده على نفس المنهج.
مدرسة متكاملة من القيم التربوية والسلوكية وفقه التعامل مع الآخرين
وأخيرا فقد كانت كل لحظة في ملازمة هذا الراحل العظيم، مدرسة متكاملة من القيم التربوية والسلوكية وفقه التعامل
مع الآخرين، سواء في عمله أو بيته أو التعامل مع المارة أو حتى في الرد على الهاتف، إلا وفيها حكمة وموعظة وتربية بشهادة أقرب المقربين له.
وفاته رحمه الله:
توفي المهندس صلاح عطية في 11 يناير 2016م بعد صراع مع المرض عن عمر ناهز 70 عاما ولم ينجب أولادا،
وترك خلفه مئات المشروعات الخيرية وقضى عمره كله في خدمة الناس وإسعادهم، ضاربا أعظم المثل في الصلاح والإصلاح.
وبعد تغسيله بماء زمزم الذي ورد إليه بمحض الصدفة قبل وفاته بيوم من البيت الحرام، شهد جنازته مئات الألوف
من المشيعين مما جعلها من أكبر الجنازات في مصر، وقد نعاه الأزهر الشريف وجامعة الأزهر ورابطة الجامعات الإسلامية
وغيرها، وذكر الأزهر في بيانه: “إن المهندس صلاح عطية، مؤسس فرع جامعة الأزهر بـ”تفهنا الأشراف” بمحافظة الدقهلية،
والذى رحل عن عالمنا ضرب أروع الأمثلة فى مختلف الجوانب الإنسانية، وفى حبه للعلم وأعمال البر ببنائه العديد من المعاهد
الأزهرية وتأسيس فرع جامعة الأزهر بـ”تفهنا الأشراف”، والتي ستبقى شامخة في الذاكرة، ونورًا له يوم القيامة”.
وقال الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية أ.د. جعفر عبد السلام: “إن الراحل أعاد العمامة الأزهرية إلى رؤوس الأزهريين،
وعاش مجاهدا بماله لتعليم النشء المسلم وتوفير مساجد للمصلين في ربوع مصر”.
وقال عنه رئيس جامعة الأزهر أ.د. إبراهيم الهدهد: “إن جامعة الأزهر تحتسب عند الله المحسن الكبير المهندس صلاح عطية
الذي كان له جهد مشهود في السعي في الخيرات، حيث أنشئ فرعا لجامعة الأزهر بقرية تفهنا الأشراف بمحافظة الدقهلية،
من أربع كليات ومدن جامعية، إضافة إلى المعاهد الأزهرية الكثيرة، سائلين الله تعالى له المغفرة والرضوان”.
كان يمكث فى مقبرته بين الحين والآخر ويقرأ فيها القرآن
أما عن مقبرته فقد حرص على أن تكون عادية جدًّا، اتباعا للسُّنة النبوية الشريفة، وكان يذهب إليها بين الحين والآخر يمكث فيها، ويقرأ فيها القرآن الكريم أثناء حياته، ليُذكِّر نفسه بالآخرة.
وتبقى أيها الراحل الكريم، من الشخصيات المخلصة التي تحزن عليها الأرض وتفرح بها السماء.. ستظل أيها المجاهد الخفي
محفورا في الذاكرة، لن تمحو ذكراك الشهور والسنون. ولا تحسبن أيها القارئ الكريم أننا قد أوفينا الراحل حقه،
فهذه ليست سيرة ذاتية له، بل -والحق أقول- هذه نقطة في بحر من أعماله رحمه الله، يعقبها بإذن الله مقتطفات أخرى من أعماله.
لن ننساك أيها الراحل العظيم
وقبل أن يتوقف القلم نقول له: لن ننساك أيها الراحل العظيم.. وستظل قدوة لملايين المسلمين في كل مكان،
وستبقى مواقفك العظيمة نبراسا لنا.. فاللهم ارحم عبدك صلاح عطية ذلك الرجل الذي أسهم في القضاء على الفقر والجهل
والمرض في قريته والقرى المجاورة لها، وغرس أشجارَ الخير والمعروفِ في رُبوعِ مصرَ، واستشعر لذَّة الإنفاقِ في سبيل الله؛
فمارسه سلوكًا عمليًّا، ورَأَى فضلَ العطاء عيانًا، فعاش في كَنَفِه وبركته؛ ونسألك يا الله كما وهبته في الدنيا حب المساكين
وفعل الخيرات أن تحشره في الآخرة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. اللهم استجب.
تعليق واحد