صيانة الاحتمال .. “مع الآيات ـ حلقة 49 ”
حلقات يكتبها: أ.د. عبد الشافى الشيخ

فى الحلقة 49 من سلسلة حلقات “مع الآيات” نتناول الآية 75 من سورة البقرة، يقول الله تعالى:
“أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ”.
في هذه الآية الكريمة يوضح القرآن الكريم صفة من صفات بني إسرائيل ومن يسير على دربهم،
هم قوم لا عهد لهم ولا إيمان لهم، لأنهم أشربوا حب العناد، والفجور في الخصومة،
والافتآت على منهج الله وكتبه التي أنزلها عليهم، فكان من دأبهم أنهم يحرفون الكلم عن بعض مواضعه،
فكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه، أي يبدلون ويغيرون النصوص وفق ما يتراءى لهم، ووفق ما يتماشى مع أهوائهم وملذاتهم التي لا تنتهي.
كَانُوا يَطْمَعُونَ بِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا
ولقد كَانَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأَصْحَابُهُ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ – يَرَوْنَ أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالْإِيمَانِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ الْيَهُودُ؛
لِأَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَمُصَدِّقُونَ بِالْوَحْيِ وَالْبَعْثِ فِي الْجُمْلَةِ؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يَطْمَعُونَ بِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا؛ لِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ
لِمَا مَعَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَموضح لِجَمِيعِ شُبُهَاتِ الدِّينِ، وَمبيّن لِجَمِيعِ إِشْكَالَاتِهِ بِالتَّفْصِيلِ، وَوَاضِعٌ لَهُ عَلَى قَوَاعِدَ لَا تُرْهِقُ النَّاسَ
عُسْرًا (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).
كَانَ هَذَا الطَّمَعُ فِي إِيمَانِهِمْ مَبْنِيًّا عَلَى وَجْهٍ نَظَرِيٍّ مَعْقُولٍ، لَوْلَا أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِجَعْلِ الدِّينِ رَابِطَةً جِنْسِيَّةً، ووثيقة قومية،
بعيدا عن روح الدين والالتزام بأوامر الله، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ هِدَايَةً رُوحِيَّةً؛ وَلِذَلِكَ مما أثر عنهم أنهم كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ وكأنه نص
قابل للنقد والترجيح فكانوا يقدّسون اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ، وَيُحَرِّفُونَ كَلِمَهُ عَنْ مَوَاضِعِهَا بِحَسَبِ الْأَهْوَاءِ.
لَمْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى
أراد القرآن الكريم أن يوضح للمؤمنين حقيقة الأمر بالنسبة لإيمان هؤلاء، ولما كان المؤمنون طامعون في إيمانهم
قصّ القرآن عليهم مِنْ نَبَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ التَّشْرِيعِ، وَشَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا عُلِمَ بِهِ أَنَّهُمْ فِي الْمُجَاحَدَةِ
وَالْمُعَانَدَةِ عَلَى عِرْقٍ رَاسِخٍ، لَا يَكْفِي فِي زِلْزَالِهَا كَوْنُ الْقُرْآنِ واضحا فِي نَفْسِهِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ رَيْبٌ، وَلِذَلِكَ بَدَأَ السُّورَةَ
بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِهَذَا وَكَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ.
ثُمَّ أَفَاضَ فِي شَرْحِ حَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَنْكَرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
ذَلِكَ الطَّمَعَ بِدُخُولِ الْيَهُودِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا.
لكن ما يلفت النظر هنا ويعلم الدعاة والعلماء درسا راقيا، هو كيف تكلم القرآن الكريم عن أعدائه بكل مصداقية وحيادية،
إنه لم يكِل لهم التُهم الجزافية، فالقرآن الكريم لم يحكم على مجموعهم ولا جميعهم بالتحريف، ولو قال القرآن الكريم:
“وقد كانوا يسمعون كلام الله” لأعذرناه، ولكنه تكلّم بكلّ شفافية حتي لا يُتهم بفقد المصداقة حتى مع أعدائه فآثر التعبير
بما يفيد التبعيض فقط، فلم يعمم ولم يجازف في الحكم. وهو ما يسميه العلماء: “صيانة الاحتمال”.
فمحتملٌ أن يكون منهم من لم يحرّف، محتملٌ أن يؤمن أحدُهم، محتملٌ أن يكون منهم من لم يكن راضيا عن التحريف الصادر
من بعضهم، كل هذه وغيرها احتمالات مشروعة، وممكنات مطروحة، وحتى لا يغلق القرآن الكريم الباب في وجه هؤلاء،
ترك لهم مساحة من الاحتمال فقال “وقد كان فريق منهم” ولم يقل كلّهم أو جميعهم.
ليت الدعاة والعلماء يتعلمون من أسلوب القرآن الكريم حتى مع الأعداء. ليت الناس يتعلمون فلا يكيلون التهم بالمجازفة
دون تحقق أو دراية بأنهم بذلك يرتكبون إثما عظيما.