عفو الله أقرب لك من معصيته.. “مع الآيات ـ حلقة 36″
حلقات يكتبها: أ.د. عبد الشافى الشيخ

فى الحلقة 36 من سلسلة حلقات “مع الآيات” نتناول الآيتين 51 و52 من سورة البقرة، يقول الله تعالى:
“وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”.
منّة جديدة يمتنّ الله بها على بني إسرائيل، أنهم ساعة أن واعد الله موسى ليلُقي عليه
بعضًا من وحيه، ترك موسى قومَه وذهب لميقات ربه، واستخلف عليهم أخاه هارون،
كان هذا كلُّه عقيبَ أن نجّاهم الله من فرعون وملائه، فَرَق لهم البحر فأنجاهم
وأغرق آل فرعون وهم ينظرون، وأقدامُهم ما زالت مبتلة من أثر نعمة الله عليهم،
وكان هذا كافيا أن يتوبوا ويرجعوا لله ويشكروا الله على نعمه، لكنهم قابلوا هذه النعم بوابل من التمرّد والمعاصي
والاستخفاف بدعوة سيدنا موسى لهم.
سلسلة من السخافات والجهالات من بني إسرائيل
مروا على قوم يعبدون أصناما لهم، على الفور قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، ياااا سبحان الله، كيف يفكّر هؤلاء
القوم، كيف تطاوعهم ألسنتُهم أن يقولوا هذا الهراء والسخف، رد عليهم موسى بقوله: “إنكم قوم تجهلون”، أي تجهلون
قدْرَ الله ومقامَه الكريم.
وهنا واستكمالا لسلسلة السخافات والجهالات من بني إسرائيل، يذهب موسى لميقات ربه ليعود لهم بالأحكام والوحي
الإلهي، فيصطدم بجريمة منهم فاقت جميعَ الجرائم، لقد اتخذوا معبودا غير الله من حليّهم وذهبهم الذي خرجوا بها من مصر،
سرقوه فانقلب عليهم وبالا وصار بابَ فتنة عليهم، وسماه القرآن الكريم ظلم: “وأنتم ظالمون”.
وهي كلمة لمن يعيها عظيمةٌ جليلةٌ، ظالمون لأنكم وضعتم الأمرَ في غير نصابه، ظالمون لأنكم قابلتم إحسان ال
عليه السلام، ظالمون لأنكم صنعتم معبودَكم بأيديكم وتعلمون أنه لا ينفع ولا يضر ومع ذلك أصررتم على عبوديته.
ومن عجيب قدر الله وقيوميته على خلقه وعباده، أنه يهيئ الأسباب، لكن لا يركن هو سبحانه بالكلية للأسباب، فإذا قضى
أمرا تجاوز الأسباب، فالذي صنع لهم هذا العجل الذي فتنوا به وعبدوه، هو موسى السامري، وهو من تولى تربيتَه جبريلُ
عليه السلام بأمر من الله تعالى، فانظر إلى بديع حكمة الله، موسى الذي تربي في بيت فرعون يصبح رسولا وينقلب
على معتقداتهم ويدعوهم إلى عبادة الله وحده، أما موسى السامري -وهو تربية جبريل- يصبح صاحب فتنة
ويسوقهم لفتنة عظيمة، إنه تدبير الله.
رحمة الله أوسع وأشمل
ومن يقرأ هذه الأحداث لا يشك أن الله سينتقم منهم أشد انتقام، إذا كيف يبدلون نعمة الله كفرا، ولكن رحمة الله أوسعُ
وأشملُ وهو القائل:” ورحمتي وسعت كل شيء” وورد ان رحمة الله سبقت غضبه، فهو يتعامل حتى مع العصاة
بأنه إله ورب، لا على أنه منتقم منهم أو ندٌّ لهم، وحاشاه سبحانه وتعالى أن يُسْتَدْرَج فيثأر.
قدَّم لهم جانبَ الترغيب على جانب الترهيب، أراد أن يردّهم إليه عن طريق العفو والإنعام والإغداق عليهم،
فقال لهم: “ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون”.
والله لو علم العصاة كيف يريد اللهُ بهم الخيرَ، وكيف يعاجلُهم بالعفو وهم يعاجلونه يالذنب، لاستحيُوا من أنفسهم، ولغضُوا الطرف أمامَ كرمِ الله عليهم، نسألُ الله أن يعفوَ عنا وأن يرحمَنا وأن يشملَنا بكرمه الذي لا يُضام.