كذلك يحي الله الموتى .. “مع الآيات ـ حلقة 47”
حلقات يكتبها: أ.د. عبد الشافى الشيخ

فى الحلقة 47 من سلسلة حلقات “مع الآيات” نتناول الآيتين 72 و73 من سورة البقرة، يقول الله تعالى:
“وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”
جَاءَتْ هَاتان الآيتان عَلَى أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ غير المسبوق او الملحوق
فَهُوَ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ لَمْ يَلْتَزِمْ تَرْتِيبَ الْمُؤَرِّخِينَ عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ حَتَّى فِي الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ
وَإِنَّمَا تنسِّقُ الْكَلَامَ فِيهِ بِأُسْلُوبٍ يَأْخُذُ الْقُلُوبِ ، وُيُحَرِّكُ الْفِكْرَ إِلَى الَّنَّظَرِ تَحْرِيكًا وَيَهُزُّ النَّفْسَ
لِلْاعْتِبَارِ هَزًّاًّ. وَقَدْ رَاعَى فِي قَصَصِ بَنِي ْسْرَائِيلَ أَنْوَاعَ الْمِنَنِ الَّتِي مَنَحَهُمُ الله – تَعَالَى – إِيَّاهَا ، وَضُرُوبَ الْكُفْرَانِ وَالْفُسُوقِ الَّتِي
قَابَلُوهَا بِهَا، وَمَا كَانَ فِي أَثَرِ كُلِّ ذَلِكَ مِنْ تَأْدِيبِهِمْ بِالْعُقُوبَاتِ، وَابْتِلَائِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَكَيْفَ كَانُوا يتوبون فِي أَثَرِ كُلِّ
عُقُوبَةٍ، وَكان لَهُمْ فِي أَثَرِ كُلِّ تَوْبَةٍ نِعْمَةً، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى بَطَرِهِمْ، وَيَنْقَلِبُونَ إِلَى كُفْرِهِمْ.
من عجائب القرآن في عرض القصص
كَانَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ يَذْكُرُ النِّعْمَةَ، فَالْمُخَالَفَةَ، فَالْعُقُوبَةَ، فَالتَّوْبَةَ، فَالرَّحْمَةَ كَالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَأَخْذِ الْمِيثَاقِ، وَالْإِنْجَاءِ
مِنْ فِرْعَوْنَ، وَمَا كَانَ فِي أَثَرِ ذَلِكَ عَلَى مَا أَشَرْنَا الْآنَ وَأَجْمَلْنَا، وَأَوْضَحْنَا مِنْ قَبْلُ وَفَصَّلْنَا، وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ اخْتَلَفَ النَّسَقُ فَذَكَرَ
الْمُخَالَفَةَ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: “وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا”، ثُمَّ الْمِنَّةَ فِي الْخَلَاصِ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ: “فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا”،
وَقَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرَ وَسِيلَةِ الْخَلَاصِ، وَهِيَ ذَبْحُ الْبَقَرَةِ بِمَا يجعل السَّامِعَ مشتاقا إِلَى مَعْرِفَةِ مَا وَرَاءَهَا، وهو من عجائب
القرآن في عرض القصص بهذا التنوع والأسلوب الذي يشحذ الهمم، وينشط السامع، ويستقطبه فلا يكاد السامع يلتفت
عن القصة حتى يأتي على آخرها، لطلاوة الأسلوب والنهج الذي انتهجه القرآن في العرض.
ذبحوها وما كادوا يفعلون
وبعد أن حصل بنو إسرائيل على هذه البقرة بتلك المواصفات التي حددها لهم نبي الله موسى، ذبحوها وما كادوا يفعلون،
وتلك شيمة النفاق في كل زمان، أنهم لا يباشرون أوامر الله إلا عن تكاسل وتقاعس، ألم يقل ربنا تعالى: “وإذا قاموا إلى
الصلاة قاموا كسالى..”؟.
فلما ذبحوها، قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها، أي: ببعض منها، إما معين، كعظمة الفخذ – على ما أحد الأقوال –
أو أي عضو منها،
فليس في تعيينه فائدة، والقرآن دوما يتجاوز ما لا فائدة من ذكره، فهو كتاب تربية لا كتاب تاريخ أو قصص، فضربوه ببعضها
فأحياه الله، وأخرج ما كانوا يكتمون، فأخبر بقاتله.
وهكذا مهما طال الأمد في الستر لا بد أن يأتي يوم تنكشف فيه الحقائق إذا أراد الله تعالى.
لم يكن هناك دليل دامغ يرجح اتهاما محددا
بنوا إسرائيل قتلوا نفسا وادارؤا فيها، فلقد حاول أهل القريتين – قرية القتيل، والقرية التي وجدت أمامها الجثة – أن يدفع كل
منهما شبهة الجريمة عن نفسه وربما يتهم بها الآخر، ولم يكن هناك دليل دامغ يرجح اتهاما محددا. بل كانت الأدلة ضائعة
ولذلك استحال توجيه اتهام لشخص دون آخر أو لقرية دون أخرى. لكن تأبى مشيئة الله إلا أن يقيم ميزان العدل في الأرض،
ويعيد الحقوق إلى أربابها، حتى لا يتم عقاب أحد بغير جريرة، وفي ذات الوقت يثبت نبوة موسى عليه السلام، حتى يلزمهم
الحجة بنبوّته.
“كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” ليرى بنو إسرائيل وهم على قيد الحياة كيف يحيى الله الموتى
وليعرفوا أن الإنسان لا يبقى حيا بأسباب الحياة، ولكن بإرادة مسبب الحياة في أن يقول: “كن فيكون”.