تحدي من لا يخشى المعارضة أوالقهر “مع الأيات ـ حلقة 10”
حلقات يكتبها: أ.د. عبد الشافى الشيخ

“مع الأيات” والرسالة القرآنية العاشرة من قوله تعالى فى سورة البقرة:
“إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)”.
في هاتين الآيتين الكريمتين يقطع الله الأمل في إيمان فئة بعينها،
فهي من الآيات العامة التى أراد الله بها الخصوص، فليس كل الذين كفروا لن تجدي
معهم الدعوة، وإلا لما دعى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحدا بعد نزولها.
فالمراد أنّ فئةً بعينها، وهي من استمرأَت الكفر وانتصرت له ودافعت عنه معتقدة
صحتَه، فهؤلاء دون غيرِهم، لن تنفعَهم نصيحةٌ ولن تردَهم عبرةٌ، ولا رجاء فى هدايتهم أبدا.
سلاحٌ ذو حدين
ومن العجيب أن هذه الآية سلاحٌ ذو حدين، فهي إخبار عن الغيب أن هؤلاء المعنيين لن يؤمنوا،
وكان بإمكانهم أن يكذّبوا القرآن، فيؤمن أحدهم مكذبا مراد هذه الآية، أمثال أبي لهب وأمية بن خلف وغيرهما،
ولكن المتكلم هو الله تعالى الذي بيده مقاليد الأمور، قالها بثبات، وحكم عن يقين، مستخدما أرقى وأعتى ألوان التأكيد،
وهو التعبير بالجملة الإسمية: “إن الذين كفروا ..”، والتي تفيد الاستمرارية والديمومة والثبات في الأحكام،
فلا يعتريها نقض أو نسخ.
فهو تحد صارخ، تحدي من لا يخشى المعارضة أوالقهر، ثم دلل الله تعالى على هذه الدعوة بقوله:
“ختم الله على قلوبهم ..”.
أغلق الله قلوبَهم فلا الكفرُ يخرج ولا الإيمانُ يدخل
وإذا ختم الله على قلبٍ فمن ذا الذي يفضّ ختمَ الله تعالى، ولقد أغلق الله قلوبَهم فلا الكفرُ يخرج،
ولا الإيمانُ يدخل، فحظرَ القلبَ من أن يخرج منه الكفرُ والعنادُ، كما حظره أن يدخلَه الهدايةُ والإيمان.
ومعلوم أن ختم الله على قلوبهم ليس ابتداء، فحاش لله الذي يأمر بالهداية والإيمان أن يغلق القلب ابتداءً،
والمقرر شرعا أن ذلك الختم كان بسبب غيّهم وعنادهم، وصدق الله: “كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ”.
فالقلب إنما يستوجب الختم وإيقاع الغشاوة التي تحول بين القلب والسمع والبصر، وبين أن يمارس كل عضو دوره
في التعرف والتقرب إلى الله تعالى.
فالله لا يحجب الناس عنه ابتداء، ولا يعاقب الناس ابتداءً، ولعل هذا ما يذكرنا به قوله تعالى فى سورة النساء:
” فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ..” (آية 160).
القلب إذا عصى صاحبُه نُكتت فيه نكتة سوداء
وقد أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هذا المعنى عندما أخبر أن القلب إذا عصى صاحبُه،
صارت فيه نكتة سوداء، ولا تزال تتسع بفعل المعاصي والفواحش حتى يظلمَّ القلبُ فيصيرَ القلبُ بعدها كالكوز مُجخّيا.
فقد روى الإمام مسلم في صحيحة من حديث حذيفة بن اليمان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
” تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ عَرْضَ الْحَصِيرِ، فَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا
نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، حَتَّى يَصِيرَ الْقَلْبُ عَلَى قَلْبَيْنِ: أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، لَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ،
وَالْآخَرِ أَسْوَدَ مُرْبَدٍّ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا ـ وَأَمَالَ كَفَّهُ ـ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ “.
هل عرفت الآن من الذين ختم الله على قلوبهم؟
هم الذين أشربوا حب المعصية واستمرؤوها، وجاهروا بها متلذذين بها، لم يفعلوها ضعفا أو نسيانا،
ولم يندموا على تقصيرهم في جنب الله، إنما بارزوا بها الله والعباد، دون حياء أو استحياء،
وهؤلاء هم الذين كره الله إيمانهم كما كره خروج قوم للجهاد:
“وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ” (التوبة 46).
فإياك أيها القارئ الكريم أن يصل الأمر معك، أن يأخذ الله فيك قرارا بكراهية الطاعة منك حتى ولو قدمتها،
أو أن يحكم الله عليك بأنه لن تجدي معك هداية، كن دائما متلقيا لفيوض الله وتوفيقه للطاعات،
واعلم أنك إذا وفقت لطاعة فإنما هي نعمة من الله فاحمد الله عليها.
والخوف كل الخوف والوجل كل الوجل أن يحرمك الله من الطاعة لأنك استنفذت رصيدك من الستر أو من الهداية،
والمصيبة كل المصيبة أن يغلق الله دونك بابه، فلا تنفعك طاعة ولا تفيدك هداية.
وساعتئذ لم يبق للعبد إلا العذاب العظيم، والخيبة والندامة والحسرة “ولات حين مندم “.
نسأل الله العفو والعافية .