
“مع الآيات” .. وهذه الرسالة الثامنة من قوله تعالى فى سورة البقرة: “وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ” (آية 4).
وإنها رسالة جد خطيرة، ترسم ملامح الشخصية المسلمة الواعية، وهي التي تستوعب ما عداها، فالفرق بين الإسلام
وما عداه، أن الإسلام ومنتسبيه يؤمنون بما سبقهم إجمالا دون تفصيل، فلا ينكرون الأنبياء السابقين ولا الرسالات السابقة،
ولا الكتب السماوية السابقة، بل جعل الله تعالى من تمام الإيمان هو الإيمان بتلك الديانات والرسالات التي سبقت: “آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ….”.
ولقد استقى الفكر الإسلامي هذه الأيدلوجية من القرآن الكريم ذاته عندما وصفه الله تعالى بقوله: “وأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ”، فالقرآن الكريم مستوعب لما سبقه من الكتب، مؤمن بها، وإنما جاء مهيمنا
على ما سبق لأنه الكتاب الخاتم الذي أعدّه الله تعالى لأن يكون صالحا بل مصلحا لكل زمان ومكان.
الاستيعاب وعدم الاصطدام
وهكذا المؤمن الواعي الذي تربى على مائدة القرآن ويستقي منها تعاليمه الخالدة، لابد وأن يستوعب ما عداه، وليس معنى
الاستيعاب هنا أن يندمج أو أن يطبق كل الأفكار ويعتنقها، فتضيع هويته وتذوب شخصيته المؤمنة، أو أن يصبح مسخا لا قَوام
له، وإنما أقصد بالاستيعاب هنا هو تفهّم طبيعة البشر من الاختلاف القائم بينهم، وعدم الاصطدام مع هذه السنة التي بنى
الله عليها الكون كله: ” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ”.
وهذه الآية الكريمة تقرر أن مشيئة الله تعالى اقتضت أن يخلق الناس جميعاً مختلفين.
ولتعميق هذا الفهم يذكر القرآن في موضع آخر: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون”.
وهذه الآية تؤكد أن الله وحده الذي صيّر هذا الاختلاف وجعله من ثوابت النظام الكوني.
التعايش السلمي حتى مع المخالفين
وهذا يسلمنا حتما إلى قضية التعايش السلمي حتى مع المخالفين، طالما أنها ليست دار حرب، تماما كما تعايش النبي مع
غير المسلمين داخل المدينة المنورة، تارة يهادنهم وتارة يبايعهم وتارة يدعوهم. مسترشدين جميعهم وملتزمين بوثيقة
المدينة التي تعاهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة ومن فيها، أما الصدام المستمر في دار لسيت دارَ
حرب فهو القصور بعينه، وعدم الفهم لنصوص الإسلام.
قضية الاستيعاب هي ثقافة الأقوياء في كل مجال
ويبدو أن قضية الاستيعاب هي ثقافة الأقوياء في كل مجال، ولقد تعلمنا على يد مشايخنا أنه إذا رأيت المتحدث يتعصب لرأيه
فقط، فاعلم أنه ليس بعالم، إنما العالم هو من يستوعب الخلاف ولوكان عكس قوله.
ورحم الله الإمام الشافعي عندما قال: “رأيي صواب يحتمل الخطأ.. ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب” حتى صارت قاعدة أصولية
يعمل بها فيما يحتمل الظن من المسائل، وهذا هو المنهج الوسطي الذي تتبناه مؤسساتنا الدينية والعلمية في مصرنا،
حفظها الله من كل مكروه وسوء.
الخلاف بين البشر ينبغي أن يكون ضرورياً ونفعياً
وعليه: فإن وجود الخلاف بين البشر ينبغي أن يكون ضرورياً ونفعياً وأن يستفاد منه كدليل على صحة المجتمع ومن ثَمّ يعود
عليه بالنفع.
وفي المجال التشريعي ـ مثلاً ـ نلاحظ الاختلاف الفقهي بين الفقهاء من الوضوح بدرجة كبيرة وهو شيء طبعي وضروري، فإن
محاولة جمع الناس على رأي واحد في أحكام العبادات والمعاملات ونحوها من فروع الدين: محاولة لا يمكن وقوعها، كما أن
محاولة رفع الخلاف لا تثمر إلا توسيع دائرة الاختلاف وهي محاولة تدل على سذاجة واضحة، ذلك أن الاختلاف في فهم
الأحكام الشرعية غير الأساسية ضرورة لا بد منها، والذي أوجب هذه الضرورة طبيعة الدين، وطبيعة اللغة وطبيعة البشر
وطبيعة الكون والحياة.
أ. د. عبد الشافي الشيخ
أستاذ الدراسات العليا فى التفسير وعلوم القرآن
جامعة الأزهر الشريف