فيروس “كورونا” يردّ الناس إلى صوابهم “مع الآيات ـ حلقة 9”
حلقات يكتبها: أ.د. عبد الشافى الشيخ

“مع الآيات”، والرسالة التاسعة من خلال قوله تعالى فى سورة البقرة: “أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (آية 5).
من سبق وصفُهم بالإيمان، فهذا تمام وصفِهم بكونهم على هدى من ربهم، وهي
الرسالة القوية، والبيان الواضح من الله تعالى، فالهداية فقط من الله تعالى ومهما
طلبنا الهداية عند غير الله فلن نهتدي، ولن تسعفنا أية قوى إلا قوة الله تعالى
ورعايته، ولعل في حاضرنا ما يؤكد هذا الفهم.
إن ما اجتاح العالم مؤخرا من وباء “فيروس كورونا” يردّ الناس إلى صوابهم، أفاقهم
من ثباتهم الذي كاد أن يبعدهم بالكلية عن طريق الله تعالى، ثبت يقينا أنه لا
ملجأ ولا منجا لنا إلا الله تعالى، تماما كالهداية فليس لنا هداية دون الله تعالى، فهو الذي خلقنا ورزقنا ويعلم بما تصلح به
أحوالنا، ومن رحمته أن رسم لنا طريق الهداية، وأرسل لنا رسله معهم كتبه ليدلوا الناس على طريق الخير والحق.
الهداية ترفع صاحبها وتعلي من قدره
والذي يشحذ الانتباه هنا هو التعبير عن الهدى بكلمة “على” والتي تفيد “الاستعلاء” والتمكن كما يقول أهل اللغة، فأهل
الإيمان متمكنين من الهداية، متربعين على عرشها، وأن الهداية ترفع صاحبها وتعلي من قدره، خاصة وأن الهداية هنا ليست
هداية واحدة لهؤلاء المؤمنين، بل وصفتهم السورة المباركة بهداية تلو أخرى، تارة من القرآن: “هدى للمتقين” وتارة من الله
تعالى: “على هدى من ربهم”، وهذا بخلاف أهل المعصية التي تحيطهم وتغرقهم في ملذاتها فلا يرون غير أفعالهم
فيستحسنونها، وينغمسون فيها أكثر وأكثر.
وصدق الله: “وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين” ساعة الهدى عبر بالاستعلاء عليها والتمكن فوقها، وساعة الضلال عبر بالانغماس فيها.
وفيه ما لا يخفى من المعنى الراقي، أن أهل الهداية مستعلين فتصبح نظرتهم شمولية، لأنهم ينطرون من علو الطاعة فيرون
الآخرين، يقبلونهم ويتعايشون معهم ويسمعون لهم، فتصبح نفوسهم سوية، لا يحلمون لأحد حقدا ولا غلا.
أهل المعاصى لا يشعرون بغيرهم
أما أهل المعصية فهم منغمسون في معصيتهم لأنها تحيط بهم من كل جانب: “وأحاطت به خطيئته” فلا يرى سوى نفسه، ولا يقدس سوى عقله، لأنه لا يشعر بغيره أصلا.
وهذا ما يترجم لنا الفرق بين حالتي أهل الحق وأهل الضلال، بين فئة تسمع لغيرها وتريد بهم الخير، وبين فئة لا تسمع إلا
نفسها، ولا تقنع إلا بآرائها.
فالمؤمنون يا سادة على هدى من هدى الله تعالى مستعلين متمكنين يتمتعون بهذه الشمولية الراقية، أما أهل الضلال
فعقولهم ضيقة، وأفقُهم لا يتسع إلا لهم.
والإشارة بـ “أولئك” يفيد بعد مكانتهم ورقيّهم في كل شيء، فهم في مكانة لا تدانيها مكانة، ولا يصل إليها إلا من أتى بفعلهم
من الالتزام والطاعة لله تعالى.
السيد يقوم على مصالح عبيده
ولعل أيضا في لفظ الربوبية ما يوحي بالدفء الإلهي الذي يقدُر الخير دوما لصالح عباده الموحدين، فهو ربّ، والربّ سيّد، والسيد يقوم على مصالح عبيده، ومن هنا تأتي الثقة المطلقة بالله تعالى وتدبيره تعالى لشؤون خلقه، إذا استقر هذا في ذهن العبد تشبع بالرضا، فزادت لذته بالحياة، فالحياة دون رضا حياة منغّصة.
ومادة الفلاحة في قوله: “المفلحون” تشير إلى كرم الله تعالى، فالفلاحة رمز للعطاء، يضع الفلاح بذرة فتدرّ عليه ثمارا كثيرا، والأمر عند الله أعظم: “من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة” وإذا كان عطاء الأرض الحبة بسبعمائة ضعف: “مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ” فإن عطاء الله أكثر وأكثر: “وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”، نسأل الله أن يعاملنا بفضله وكرمه.