مع الآية الرابعة من سورة الفاتحة، قوله تعالى:
“مالك يوم الدين”، ومعناها أن الله تعالى دون غيره هو من يملك زمام الأمور يوم القيامة،
ولا يدع لغيره قولا أو حكما إلا من ارتضى من شفيع من بعد إذنه لمن يشاء من عباده.
وهذا البيان الصارم هو سلاح ذو حدين، الحد الأول بيانه: أن الله تعالى يملك هذا اليوم بما فيه وبمن فيه،
فلا يخشى أحدٌ على نفسه من ظلمٍ أو نسيانٍ أو محاباةٍ لأحدٍ دون وجه حق،
فتطمئن نفسُ المؤمنِ وتهدأُ جوارحُه لأن الذى سيحاسبُه هو عالم السر وأخفى، ولا يعزب عن علمه شيء.
وأن الذي سيحاسبه هو ربٌ كريمٌ، اعتاد منه الكرمَ والعطاءَ والسخاءَ فيحسن ظنُه بربه.
وهذا المعنى هو ما عناه الإعرابيُّ الذي سَأل عن يوم القيامة ومن سيحاسبه فيه؟،
فلما أُخبر: أنه الله، صاح متهللا:”نجوت ورب الكعبة”، فلما سُئل عن قوله؟،
أوضح بأنه إذا ألمت به ضائقةٌ في الدنيا فرّ بها إلى الله ولم يجد سواه ملجئا، فكيف إذا وقف بين يديه وصار الأمر كله لله.
إن هذا البيان يربي فينا حسن الظن بالله تعالى، ولا يخفى ما لحسن الظن من مقام عند الله،
حتى ورد في الأثر عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ: “لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ” رواه مسلم.
ولهذا كان الإمام سفيان الثوري رحمه الله يقول “ما أُحبُّ أن حسابي جُعل إلى والديّ، فربي خيرٌ لي من والديّ”.
نسأل الله أن يرزقنا حسن الظن وأن يعاملنا به.
أما الحد الثاني فبيانه: أن الله تعالى مالكٌ ليوم الدين فلا يضيعُ أجرَ من أحسنَ عملا، فهو أيضا مالكٌ ليوم الدين فيجازي كلّا بعمله دون أن تخفى عليه خافية،
وفيه وعيد شديد اللهجة لمن عصى الله تعالى ويظن أنّ كتابَه لن يحفظ عليه عملَه فيأتيه الجوابُ: “في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى”.
هو مالك ليوم الجزاء والمحاسبة يأخذ الحقوق ممن اغتصبوها ويردها لأصحابها، ينتقم ممن تجبر وعصى، حتى ورد أنه تعالى يأخذ للعجفاء حقها من القرناء فيحكم بين جميع خلقه بالعدل المطلق.
وفي الآية الكريمة توازن عجيب بين الطمع في رحمة الله وعفوه وكرمه، وبين الخوف والخشية من عذابه وانتقامه في سياج بلاغى راق، حيث إن اللفظ الواحد يؤدى إلى أكثر من معنى.
وهنا نقول: قد تتفق المرائى، لكن المواجيد تختلف.
نفس الآية يقرأها المؤمن فتهدأ نفسه وتطمئن لأن الله يخاطبها: “ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”.
بينما يقرأها العاصي فترتعد فرائصه أن مالكَ يومِ الدين لا يعزبُ عنه مثقالُ ذرةٍ في السماوات ولا في الأرضِ ويحصي عليهم أعمالَهم ويجازيهم عليها: “فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ومن يعمل مثقال ذرة شر يره”.
اللهم لا تخزنا يوم العرض عليك.
أ. د. عبد الشافي الشيخ
أستاذ الدراسات العليا فى التفسير وعلوم القرآن
جامعة الأزهر الشريف
زر الذهاب إلى الأعلى