
فى الحلقة الثامنة والعشرين من سلسلة حلقات “مع الآيات” نتناول الآية التاسعة والثلاثين من سورة البقرة.
يقول الله تعالى: “وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)”
ليست كل صحبة نافعة، هناك صحبة في الخير كلها بركة، يتعاهد كلٌّ من الطرفين صاحبَه بالخير فيدعوه لكل خير،
ويبعدُه عن كل شر، فيكون عونا له على طاعة الله.
وهناك صحبةُ شرٍّ، وهي التي تنقلب وبالًا يوم القيامة على أفرادها كما أخبر القرآنُ الكريم عنهم فقال:
“الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ”.
الجنة تصاحبُ أهلَها فتتفنّن في إكرامهم
والأمر يوم القيامة لا يبعُد كثيرا، فنرى أن الجنة تصاحبُ أهلَها فتتفنّن في إكرامهم حسب مراد الله،
كما أن النار أيضا تصاحب أهلَها فتتفنّن في إذلالهم كما أمرها الله تعالى.
ولعل التعبير عن النار بالصحبة فيه نوع تهكم على أهلها، فالمعهود أن الصحبةَ تأتي بالخير، لكن صحبةَ النار لأهلها هنا
تجلب عليهم كَّل شر، وإذا كانت الصحبةُ لا تكون إلا عن محبة، وهو أمر متحقق بين الجنة وأهلها، فالجنة تحب أهلها، وأهل الجنة يحبونها.
والأمر مع أهل النار يختلف قليلا، حيث المحبة هنا من طرف واحد، فالنار تحب أهلها – بمعنى أنها تحب تنفيذ أوامر الله فيهم فتعذبهم وتقهرهم- أما أهل النار فبالطبع لا يحبونها.
ومحبة النار لأهلها – على النحو الذي ذكرت – يجعلها تتفنّن في إيلامهم، حتى لو حاول أحدهم الهرب منها مثلا لاحقته،
ولو لم تحب تنفيذَ ما أمرها الله به لتركته يهرب دون ملاحقة.
الذين باعوا أنفسهم بغضب الله
أما من يستحق هذه الصحبة فهم الذين باعوا أنفسهم بغضب الله، اختاروا الكفر على الإيمان، باعوا رضوان الله بسخطه.
هم الذين كفروا أي أنكروا آيات الله، كفروا بها وجحدوها، ليس هذا فحسب بل كان مستواهم الكفري أعمق فكانوا معول هدم
على كل من يدعو إلى الله، فكفروا ثم كذبوا بآيات الله.
والتكذيب هنا هو ردُّ الأمر على الآمر جل وعلا، ليصدوا الناس عن دين الله، لأنهم مستفيدون من الكفر والتكذيب،
وهكذا الفكر الضال ينتهج ذاتَ المنهج في كل زمان ومكان، ولأنه مستفيد دوما من العشوائية في الفكر، نراه يدافع عن عشوائيته بشتى الوسائل.
العشوائية هى منهج الضالين المضلين
إن العشوائية هى منهج الضالين المضلين، ويريدونها منهج حياة، ولذلك ترى أن المجتمع الذي تظهر فيه العشوائية في مظاهر حياته هو مجتمع مشوش فكريا، يحتاج إلى ترتيب وتنظيم الفكر من جديد، ولذلك تسعى الحكومات الرشيدة دوما إلى القضاء على مظاهر العشوائية في شتى مناحي الحياة، حتى يصبح التنظيم والتخطيط هو منهج الحياة.
ويعبر القرآن الكريم عنهم بـ”أولئك” التي تفيد البعد، والبعد هنا بعد مكانة في جانب الانحطاط، فمكانتهم بعيدة في الهاوية، كبعد قَعر جهنم الذي يحتضنهم يوم القيامة.
ثم تختتم الآية بقطع كل سبيل للنجاة من النار أو الخروج منها عن طريق قوله “خالدون”، فهم خالدون في نار جهنم ليسوا بخارجين منها، فلا منقذ لهم من النار، ولا شفيع لهم عند الله تعالى، جزاء ما كفروا وكذبوا وتجرأوا على الله تعالى وأوامره.
أ. د. عبد الشافى الشيخ
أستاذ الدراسات العليا
فى التفسير وعلوم القرآن الكريم
يجامعة الأزهر الشريف