
فى الحلقة 35 من سلسلة حلقات “مع الآيات” نتناول الآية 50 من سورة البقرة، يقول الله تعالى:
“وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ”
منّة جديدة من الله تعالى على بني إسرائيل، فهم من نجاهم الله تعالى من سطوة فرعون وكتب لهم حياةً جديدة
على يد موسى عليه السلام، هنا نعمةٌ جديدة من نعمِه تعالى على بني إسرائيل حيث يذكّرهم بأنه تعالى
نجاهم من سطوة فرعون عندما لحقهم بجنوده، وأصبحوا في مقام صعب ووضع حرج للغاية، فالبحر أمامهم والعدو من خلفهم،
فهم إما أن يموتوا غرقا في البحر وإما أن يموتوا بسيوف فرعون وجنوده، الاختيار الصعب، وأحد الاحتمالين لا مفر منه.
لكن الله تعالى لا يتخلى عن عباده ولا عن أوليائه قط، يُوقف اللهُ تعالى كرامةً لهم قانونَ الأسباب جبرًا لخاطرهم،
ألم نتفق على أن الله تعالى يفعل ما يريد ويحكم ما يشاء بالأمر المباشر دون التوقف على الأسباب والمسببات؟
وهكذا تبدأ قدرة الله تعالى عندما تنتهي قدرة البشر، ينجّيهم الله تعالى بما لم يخطر لهم على بال،
ولم يكن يوما ليرد على خاطرهم، فينجّيهم الله تعالى من حيث الموت المحقق، فما كانوا يعتقدونه موتا محققا
صار سببا وأداة للنجاة المحققة. إنه تدبير الله تعالى الذي يدهش أولياءه بعطائه وتدبيره لهم.
قدرة حكيمة
ومما يلفت الانتباه هنا أن قدرة الله تعالى ليست قدرة عابثة، بل قدرة حكيمة، ولا يتدخل بها الله تعالى إلا في الوقت المناسب،
وهو بعد مباشرة الأسباب من قِبَل العبدِ، أدّى موسى ومن معه جميعَ الأسباب المتاحة لهم، حتى فرغت جعبتُهم وأُسقط في أيديهم، فلم يدخروا جهدا في مباشرة الأسباب، هنا – وهنا فقط – تتدخل قدرة الله بما ينصر به أولياءه، أَمّا أن يترك الإنسان الأسبابَ فلا يباشرُها معتمدا فقط على قدرة الله اعتمادا عابثا، فهذا غير مطلوب، فإن للكون قوانينَ لابد من ممارستها حتى لا يفسدَ الكونُ، فينبغي على العبد مباشرةُ ما أتيح له من أسباب تاركا النتائج لله تعالى وحده واثقا في قدرته، أَمّا أن ينام عن مباشرة الأسباب ثم يسأل الله قدرته فهذا لا يكون. محافظةً على نظام الكون، كالطالب الذي لم يذاكر قط ثم يسأل الله النجاح محتجا بقدرة الله. نقول له أنت لم تفهم مراد الله من خلقه، فإن لله نواميس وقوانين لابد أن تتحقق، وهو قانون الأسباب فلكل شيء سببا.
أمر الله تعالى موسى أن يضرب بعصاه البحر فتباعد الماء وافترقت جزيئاته حتى صار كالطود العظيم ممرات يمر من خلالها قوم موسى ومن تبعه، حتى عبروا اليم في سهولة بالغة لم تخطر لهم على خاطر، ولما انتهت عملية العبور وخرج آخرهم من اليم، أراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر مرة ثانية حتى يعود إلى أصله- فهو الحريص على قومه ودعوته- أمره الله تعالى أن يترك البحر رهوا كما هو فكما كان هذا العمل سببا في نجاتكم فهو أيضا سبب في إهلاك فرعون ومن معه، وزاد الله عطاءهم بأن أراهم مَهلكَ فرعونَ ومن معه ليشفي صدورَهم ويعاينوا قدرةَ الله تعالى في أعدائهم “وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون”.